للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السبب السادس: أن يستشعر العبد في نفسه مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة، فيترك التداوي خوفًا من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات. فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها، إذ رأوا لأنفسهم مزيدًا فيها، لا من حيث رأوا التداوي نقصانًا، وكيف يكون نقصانًا وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) .

والحاصل أن التداوي لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ... (٢) بل لا يتم حقيقة التوحيد - كما قال القيم - إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفها من حيث يظن معطلها: أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا (٣) .

ومما يدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل - كما قال الغزالي - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به ... ولأن القائلين باستحباب التداوي أوجبوا على المتعالج (أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات) (٤) .


(١) بتصرف من الإحياء، للغزالي: ٤/٢٧٦ - ٢٨٢، وانظر: قوت القلوب: ٢/٢١ - ٢٧؛ والفتاوى الهندية: ٥/٣٥٥؛ وزاد المعاد: ٤/١٤، ١٥.
(٢) فتح الباري: ١٠/١٣٥، ١٣٦.
(٣) الطب النبوي، لابن القيم: ص ١٠٥، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، وانظر: المنار: ٤/١٧١ - ١٧٥، ونحو ذلك في زاد المعاد: ٣/٤٨٠.
(٤) طرح التثريب: ٨/١٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>