انتهى المطلوب من أقوال الحنفية.
وسبق من قبل القول في المنبر والخاتم.
أما ما ذكر من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) فهو كما يقول السخاوي في المقاصد الحسنة (ص٤٦٠ – حديث ١٢٨٨) : (حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره) .
وأما قولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) ، فهذا ليس بمرفوع، وإنما موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، (رواه أحمد في مسنده، والبزار، والطبراني في الكبير، وإسناده صحيح) .
(انظر المسند تحقيق شاكر: ٥/٢١١، رواية رقم ٣٦٠٠، من الأخطاء القليلة للسخاوي قوله في المقاصد: ص٣٦٧ وهم من عزاه للمسند) .
والحديث الشريف والأثر ليسا بحجة للحنفية، فليس هناك إجماع على جواز الاستصناع الذي قال به جمهور الحنفية كما أشرت من قبل، والذين رأوا أنه غير جائز، وغير حسن، أكثر من الذين رأوا أنه جائز وحسن.
وما قيل في السلم والحجامة والحمام ليس حجة لهم، فهذه المعاملات شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد بعده حق التشريع، فيبقى الأصل كما هو إلى بدليل شرعي يجيز الاستثناء.
وأما قولهم "ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الإنسان ... فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج"، ففيه نظر:
لأن هذا الحرج يمكن أن يرفع بالسلم في الصناعات، والإجارة، والمواعدة.
وأما قول الكاساني: "ولأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة ... وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا) ، فقيه نظر أيضًا:
لأن هذا القول يؤيد جمهور الفقهاء الذين خالفوا الحنفية، حيث ألحقوا الاستصناع بالسلم، واشترطوا له شروطه، وسبق قول الحنفية في التفرقة بين الاستصناع والسلم. كما أن الاستصناع عند الحنفية في بعض حالاته يدخل تحت بيع الكالىء بالكالىء – المجمع على منعه – حيث لا يتم تسليم ثمن ولا مبيع وقت التعاقد، فهم لا يشترطون تسليم الثمن – كله أو بعضه – عند التعاقد، فله أن يسلم الثمن كله أو بعضه، أو لا يسلم. (انظر مثلًا العناية مع فتح القدير: ٦/٢٤٤؛ ومجلة الأحكام العدلية المادة: ص٣٩١ ونصها: "لا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حالًا، أي وقت العقد") .
ومن كل ما سبق نرى أن ما ذكره الحنفية من الأدلة لا يؤيد ما ذهب إليه جمهورهم من أنه عقد بيع على غير وجه السلم. والاستصناع ليس كالصرف الذي لا يجوز فيه المواعدة، ولذلك يمكن الأخذ بقول من ذكر من الحنفية القائلين بأنه وعد وليس عقد بيع، مع النظر فيا يترتب على هذا الوعد.