للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته (١)»، فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا.

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، أو أكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى.

ولهذا كانت مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (٢)»، وفي رواية لمسلم عنه: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح (٣)» والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث- وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه- أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن


(١) سنن النسائي الخيل (٣٥٧٨)، سنن أبو داود الجهاد (٢٥١٣)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ١٤٨)، سنن الدارمي الجهاد (٢٤٠٥).
(٢) صحيح مسلم المساقاة (١٥٥٤)، سنن النسائي كتاب البيوع (٤٥٢٨)، سنن أبو داود البيوع (٣٤٧٠)، سنن ابن ماجه التجارات (٢٢١٩)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٥٦).
(٣) صحيح مسلم المساقاة (١٥٥٤)، سنن النسائي كتاب البيوع (٤٥٢٨)، سنن أبو داود البيوع (٣٤٧٠)، سنن ابن ماجه التجارات (٢٢١٩)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٣٠٩)، سنن الدارمي البيوع (٢٥٥٦).