٤ - وما كان لهذه القوى أن تدرك الصواب والحق دائما فضلا عن عالم الغيب. إن القوى المدركة في الإنسان تدرك الأشياء بالحواس المخلتفة، ويتصورها العقل ويفكر فيها ويحكم عليها، فيميز بين الجميل والقبيح في المبصرات والمسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات، كما يميز بين الأمور المعقولة.
ففي المبصرات مثلا يجد الإنسان إعجابا بألوان بعض الزهور والطيور والتكوين الخلقي للمخلوقات، ويدرك جمال كثير مما تقع عليه عينه من المرئيات ويشعر في المقابل نحو أمور أخرى يشاهدها بالقبح وسوء المنظر.
ويرجع هذا التمييز إلى الإحساس الوجداني وما يتبعه من لذة وألم حتى إن القبيح قد يجمل بجمال أثره، والجميل يقبح بقبح ما يقتدي به.
فالمر قبيح مستبشع، ولكنه يكون جميلا مقبولا لأثره في علاج المرض، والسلطان جميل لنفوذه وسيطرته، ولكنه يكون قبيحا لظلمه وبطشه وفجوره. وأفعال الإنسان الاختيارية يصدق عليها هذا.
فالعمل الذي يجلب مصلحة أو يدفع مضرة يكون جميلا، والعمل الذي يجر إلى الضرر ويهدر المصلحة يكون قبيحا.
واللذيذ يكون قبيحا لسوء عاقبته، فسماع الأغاني، وشرب الخمر، واتباع الشهوة مما فيه لذة، ولكن هذا يقبح ما فيه من ضياع الوقت والصحة والعقل وإتلاف المال وانتهاك الحرمات.
والمؤلم يكون حسنا لحسن عاقبته، كتجشم المشاق في كسب الرزق واكتساب العلم والصبر على الطاعة وفعل المعروف وجهاد الأعداء دفاعا عن البيضة وإعلاء لكلمة الحق.
فالعقل يميز بين النفع والضر، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وهذا التمييز فيما يدركه العقل يرد عليه أمور ينبغي أخذها في الحسبان.