قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَدْحُ هُوَ الذَّبْحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْبُوحَ هُوَ الَّذِي يَفْتُرُ عَنِ الْعَمَلِ، فَكَذَلِكَ الْمَمْدُوحُ، لِأَنَّ الْمَدْحَ يُوجِبُ الْفُتُورَ وَيُورِثُ الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُهْلِكٌ كَالذَّبْحِ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَدْحُ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّحَابَةِ، وَكَانُوا أَجَلَّ رُتْبَةً مِنْ أَنْ يُورِثَهُمْ ذَلِكَ كِبْرًا أَوْ عُجْبًا، بَلْ يَزِيدُهُمْ جِدًّا، يَبْعَثُهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِيمَا يَسْتَوْجِبُونَ الْحَمْدَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَنَظِيرُهُ الْعَالِمُ أَوِ الشَّيْخُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ، أَوْ مُرِيدُهُ الْقَابِلُ الْعَاقِلُ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ رَغْبَتِهِمَا فِي الْمُجَاهَدَةِ وَتَحْصِيلِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، نَعَمْ يَقَعُ نَادِرًا بِمَنْ يَكُونُ فِيهِ الْبَلَادَةُ حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الْفُتُورُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقَامِ الْقُصُورِ، فَيَتَوَقَّفُ عَنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَالنُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ، فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونُ زَمَانِهِ، فَفِي الْحَدِيثِ (مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ) وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤] وَفِي النِّهَايَةِ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ، وَإِعْلَامًا مِنْهُ، لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا فَخْرَ) أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي، وَلَا نِلْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا، (وَبِيَدِي) أَيْ: بِتَصَرُّفِي وَعِنْدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (لِوَاءُ الْحَمْدِ) : اللِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الْعَلَمُ، وَفِي الْعَرَصَاتِ مَقَامَاتٌ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُنْصَبُ فِي كُلِّ مَقَامٍ لِكُلِّ مَتْبُوعٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ لَهُ، قُدْوَةَ حَقٍّ كَانَ أَوْ أُسْوَةَ بَاطِلٍ، وَأَعْلَى تِلْكَ الْمَقَامَاتِ مَقَامُ الْحَمْدِ، فَفِي النِّهَايَةِ: اللِّوَاءُ الرَّايَةُ، وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ، يُرِيدُ بِهِ انْفِرَادَهُ بِالْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَشُهْرَتَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَوَضَعَ اللِّوَاءَ مَوْضِعَ الشُّهْرَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا لِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّهْرَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْحَمْدِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَا مَقَامَ مِنْ مَقَامَاتِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَرْفَعُ وَأَعْلَى مِنْ مَقَامِ الْحَمْدِ وَدُونَهُ يَنْتَهِي سَائِرُ الْمَقَامَاتِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ أَحْمَدَ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْحَمْدِ لِيَأْوِيَ إِلَى لِوَائِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» ) وَلِهَذَا الْمَعْنَى افْتُتِحَ كِتَابُهُ بِالْحَمْدِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنَ الْحَمْدِ، فَقِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَأُقِيمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنَ الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُفْتَحْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا يُفْتَحُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَأَمَدَّ أُمَّتَهُ بِبَرَكَتِهِ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي آتَاهُ، فَنَعَتَ أُمَّتَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ بِهَذَا النَّعْتِ فَقَالَ: أَمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ لِلَّهِ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا وَلَا فَخْرَ، فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْقُرْبِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ اللِّقَاءُ النَّاشِئُ عَنْ تَمَامِ الرِّضَا، وَالْفَنَاءِ بِالْبَقَاءِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لِخُلُوصِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَوْلَى وَنِسْيَانِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْوَرَى.
(وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ) : بِالرَّفْعِ. وَقِيلَ: بِالْخَفْضِ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلٍّ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ مِنْ لَفْظِ نَبِيٍّ وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: نَبِيٌّ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ (مَنْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ فَيُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ (آدَمُ فَمَنْ) إِمَّا بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ مَحَلِّهِ، وَمَنْ فِيهِ مَوْصُولَةٌ. وَسِوَاهُ: صِلَتُهُ. وَصَحَّ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ وَأُوثِرَ الْفَاءُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي فَمَنْ سِوَاهُ عَلَى الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِمْ: الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ( «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَزَادَ فِي الْجَامِعِ: ( «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute