قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ تَتْمِيمٌ صَوْنًا مِنْ تَوَهُّمِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي تِلْكَ الرُّؤْيَةِ مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَالْحُسْنُ هُوَ الصَّفَاءُ وَرِقَّةُ الْبَشْرَةِ وَنُعُومَةُ الْأَعْضَاءِ، هَذَا وَلَعَلَّ الزَّوْجَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِعُمُومِ أَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِ فَيُزَادُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لِلتَّكْرِيرِ لَا لِلتَّحْدِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ أَنَّ لِلْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. (يُسَبِّحُونَ اللَّهَ) أَيْ: أَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَزِّهُونَهُ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ نُعُوتَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ مُتَلَازِمَانِ، كَمَا حُقِّقَ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لِلتَّوْكِيدِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: ١٠] (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، أَيْ دَائِمًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا لَيْلًا وَنَهَارًا بِإِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، مَجَازٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرَادُ بِهَا الدَّيْمُومَةُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، لَا تَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ، بَلِ الدَّيْمُومَةَ (لَا يَسْقَمُونَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْقَامُوسِ: سَقِمَ كَفَرِحَ وَكَرُمَ، وَالْمَعْنَى لَا يَمْرَضُونَ وَلَا يَضْعُفُونَ وَلَا يَشِيبُونَ (وَلَا يَبُولُونَ) ، أَيْ مِنْ قُبُلٍ (وَلَا يَتَغَوَّطُونَ) أَيْ مِنْ دُبُرٍ (وَلَا يَتْفُلُونَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ لَا يَبْزُقُونَ (وَلَا يَتَمَخَّطُونَ) ، أَيْ لَيْسَ فِي فَمِهِمْ وَأَنْفِهِمْ مِنَ الْمِيَاهِ الزَّائِدَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ لِيَحْتَاجُوا إِلَى إِخْرَاجِهَا، وَلِأَنَّ الْجَنَّةَ مَسَاكِنُ طَيِّبَةٌ لِلطَّيِّبِينَ، فَلَا يُلَائِمُهَا الْأَدْنَاسُ وَالْأَنْجَاسُ (آنِيَتُهُمْ) : جَمْعُ إِنَاءٍ أَيْ: ظُرُوفُهُمْ (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ) ، أَيْ مُلَمَّعَةٌ عَلَى إِرَادَةِ الزِّينَةِ، أَوْ ظُرُوفُ بَعْضِهِمُ الذَّهَبُ، وَظُرُوفُ بَعْضِهِمُ الْفِضَّةُ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (وَأَمْشَاطُهُمْ) : جَمْعُ مُشْطٍ (الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمْ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَا يُوقَدُ بِهِ مَبَاخِرُهُمْ (الْأَلُوَّةُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ، وَبِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَجْمَرُ - بِالْفَتْحِ - مَا يُوضَعُ فِيهِ الْجَمْرِ وَيَحْتَرِقُ فِيهِ الْعُودُ، وَبِالْكَسْرِ الْآلَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ أَنَّهُ لَا نَارَ فِي الْجَنَّةِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَفُوحُ بِغَيْرِ نَارٍ. أَقُولُ: وَقَدْ يَكُونُ بِالنُّورِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَجَامِرُ جَمْعُ مِجْمَرٍ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ فِيهِ النَّارُ لِلْبَخُورِ، وَبِالضَّمِّ هُوَ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وَأُعِدَّ لَهُ الْجَمْرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَفَائِدَةُ الْإِضَافَةِ أَنَّ الْأَلُوَّةَ هُوَ الْوَقُودُ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ وَقُودَهُمْ غَيْرُ الْأَلُوَّةِ. انْتَهَى.
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْمُتَعَالِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا تَلَبُّدَ لِشُعُورِهِمْ، وَلَا وَسَخَ، وَلَا عُفُونَةَ لِأَبْدَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، بَلْ رِيحُهُمْ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَى التَّمْشِيطِ وَالتَّبَخُّرِ إِلَّا لِزِيَادَةِ الزِّينَةِ، وَالتَّلَذُّذِ بِأَنْوَاعِ النِّعْمَةِ الْحِسِّيَّةِ كَمَا قَالَ: (وَرَشْحُهُمْ) أَيْ عَرَقُهُمْ رَائِحَةُ (الْمِسْكُ) ، وَالْمَعْنَى رَائِحَةُ عَرَقِهِمْ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ ( «عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَتُسَكَّنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ كَمَا سَبَقَ، وَبِفَتْحِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَتْرَابٌ فِي سَنٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: ( «عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ» ) ، أَيْ فِي الْقَامَةِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ) أَيْ طُولًا، فَكَنَّى عَنْهُ بِهِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: الْعَرْضُ سَبْعَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رُوِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، وَبِفَتْحِ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ الضَّمَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغَضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْفَتْحُ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَمَخَّطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ: عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قِيلَ: الْمَوْصُوفُونَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ - حَسُنَ الْإِبْدَالُ، انْتَهَى. وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ كَامِلُونَ فِي الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ جَمِيعًا بَلِ الْخُلُقُ - بِالضَّمِّ - هُوَ الْخَلِيقُ بِالِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ مُوجَبٌ بِحُسْنِ الْخَلْقِ - بِالْفَتْحِ - وَلِذَا قِيلَ: الظَّاهِرُ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا خَلَقَ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الصُّورَةِ وَحَسَنَ الصَّوْتِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤] بَيَانُ أَنْ يَكُونَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي خَلْقِ تَصْوِيرِهِ الْجَسِيمِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، فَبِمِقْدَارِ صَفَاءِ الْمِرْآةِ وَصِقَالَتِهَا وَتَخْلِيَتِهَا وَتَجْلِيَتِهَا تَنْعَكِسُ وَتَتَجَلَّى فِيهَا صُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي الْجَامِعِ: ( «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يَبْدُو مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute