[جزاء المفسدين]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كُتِب عليه مثل وزر مَن عَمِل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء} رواه مسلم.
وفي لفظ لـ مسلم أيضاً: {مَن دعا إلى ضلالة} الحديث.
فهذان اللفظان -عباد الله- صريحان كل الصراحة في تحريم سن الأمور السيئة وإشاعتها بين الناس، سواء كان ذلك تعليمَ علمٍ أو أدبٍ أو عبادةً أو غيرَ ذلك، وسواء كان العمل بها في حياته أو بعد مماته: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:٢٥] {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:١٣] .
ولقد جاء في السنة النبوية ما يدل على نسبة الأحداث إلى محدثها، وأنه يتحمل إثمه إلى يوم القيامة جراء ما أوقع فيه غيره من إخلال بنهج الله وشرعته، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كِفل منها؛ لأنه أول من سن القتل} رواه البخاري ومسلم.
ويقول صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين في قصة صلاة الكسوف: {رأيت عمرو بن لُحَي يجر قُصْبَه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم} .
وقد ذكر أهل العلم رءوساً كثيرة كانت سبباً في الإحداث بين المسلمين وإضعاف دينهم، بما جلبوه في أوساطهم مما يفرق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع:
- كـ ابن سبأ: الذي قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه.
- وعبد الرحمن بن ملجم: قاتل علي رضي الله عنه.
- والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان: اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد.
- وكـ المأمون: الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه.
- ومِن بعدِهم كثير وكثير ممن أحدثوا في الدين محدثات سارت بها الركبان وكان لها في الإفساد في الدين في سائر جوانبه كما فعل بولس بدين النصرانية، وفي بعض المُثُل كفاية وغُنْيَة لمن هم في الفَهم فُحُل.
عباد الله: إننا حينما نذكر مثل ذلك لنؤكد بقوة وعزم أن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، وأن الفساد والإفساد ماضٍ إلى يوم القيامة، مما يستدعي التحذير والتقريع من أن يقع مسلم ما في عداد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجاً، من حيث يشعر أو لا يشعر، وأياً كان هذا المسلم صغيراً أو كبيراً، وضيعاً أو غِطْرِيفاً، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات.
وإنَّ فتح مسلمٍ ما باب الإفساد أو تخليه عن الإصلاح لما أفسد، لَيُؤكد التبعية عليه، وأن الدين قد يؤتى من قبله فيحمل وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة، ولقد تمثل ذلك جلياً في دعوات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وكان التأكيد أقوى في مخاطبته لزعماء القبائل وملوك الناس؛ لأن مَن كان ذا مسئولية ورعاية عظيمَين كانت التبعية له أو عليه أعظم، ومن هذا المنطلق كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه:
{بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلامٌ على مَن اتبع الهدى.
أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين} رواه البخاري.
والمعنى عباد الله: أن عليه إثم الضعفاء والأتباع في مملكته إذا لم يُسلموا تقليداً له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
فكل مفسدة يُخشى أن تؤتى من قِبَل ضرورة من هذه الضرورات؛ فإنه يجب درؤها، ودفعُها أولى من رفعِها، وكان على المتسبب فيها سواء كان هو المنشئ الأول أو كان محيياً لها بعد إماتة؛ كان عليه من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات.