شيخ من أهل المدينة يكنى أبا إسحاق قال: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وأنَّه ليدخل يسأل عن الشئ فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية الفتيا، وكانوا يدعون سعيد بن المسيب الجرئ، وروى مالك رحمه الله عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم "إن من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون"، وفى صحيح مسلم:"أن أبناء لعبد الله بن عمر سألوه عن شيء لم يكن عنده فيه علم، فقال له يحيى بن سعيد: والله إنى لأعظم أن يكون مثلك وأنت ابن إمام الهدى -يعنى عمر- وابن عمر تسأل عن أمر ليس عندك فيه علم؟ فقال: أعظم من ذلك والله عند الله وعند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو أخبر عن غير ثقة"، وعن سفيان بن عيينة قال:"أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا".
ومن العادات السيئة التساهل في حرفة المحاماة فإن بعض القائمين بها يتوكلون في القضايا، علموا بحقيقتها أو لا، وكثير يقبلها مع علمه بأن موكله ليس على الحق ويعين الظالم على ظلمه، وكثيرًا ما ينتصرون بباطلهم على الحق فتضيع الحقوق ويأكلون أموال الناس بالباطل ولا يبالون بحمل موكليهم على الإتيان بشهداء الزور ويوحون إلى أرباب القضايا وإلى المزورين ضروبًا من الضلال ما كانوا يعرفونها،
فليتق الله القائمون بهذه المهنة، خصوصًا رجال الدين منهم، فإنهم أولى الناس بحرمته ولا تغرنهم الدنيا فإن ما يأخذونه من هذا العرض الزائل لا يساوى شيئًا في جانب كرامة الدين، والوقوف بين يدى أحكم الحاكمين، يوم يتعلق المظلومون بالظالمين، بل لا يعد شيئًا في جانب سقوط العدالة وفقدان المروءة وسوء الخلق، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط اللّه حتى ينزع" رواه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر وقال: صحيح الإسناد، وقال أيضًا:"من جادل في خصومة من غير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع" رواه ابن أبي الدنيا والأصفهاني من حديث أبي هريرة، وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه.