ما أمروا به من التضرع والإخفاء، كما لا يحب الاعتداء في سائر الأشياء، والاعتداء تجاوز الحدود فيها، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين ولا يشملهم برحمته وإحسانه، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولًا أوليًّا، وحسبك في تعيين الإسرار بالدعاء اقترانه بالتضرع في هذه الآية الكريمة، فالإخلال به كالإخلال بالتضرع في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا إسرار ولا وقار.
والدعاء على هذه الهيئة أيضًا لم يكن من فعل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ولا قوله ولا إقراره، روى البخارى من حديث أم سلمة رضي الله عنها:"أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث إذا سلم يسيرًا". قال ابن شهاب: حتى ينصرف الناس فيما نرى، وفى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان إذا سلم لم يقعد إلَّا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، فيه من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من
صلاته (سلم منها) استغفر الله ثلاثًا وقال: "اللهم أنت السلام … " الحديث، وفى "الأذكار" للنووى قيل للأوزاعى - وهو أحد رواة هذا الحديث -: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله أستغفر الله، ومع هذا ترى كثيرًا من الناس يصرخون ويصيحون في الدعاء، وفى المساجد، حتى يشتد اللغط ويقع التهويش على المصلين والمسبوقين ويهتز الداعى مع الناس ولا يعلم أنه قد جمع بين بدعتين رفع الصوت بالدعاء وفى المسجد.
لا يقال قد تحصل للعوام حينئذ رقة في القلب لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار واتباع السنة الثابتة بالآثار، (لأنا) نقول: إنها رقة تشبه الرقة التى تعرض للنساء والأطفال ليست ناشئة عن صميم القلب، إذ لوكانت كذلك لكانت عند اتباع السنة في الدعاء أوفى وأوفر وأزكى وأكثر.
فإن قيل: كيف تنكر على الناس رفع الصوت بختم الصلاة مع أن رفع الصوت بالذكر كان يفعل في زمن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقد روى البخارى من حديث عمرو بن دينار أن أبا معبد مولى ابن عباس