للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عرف أن للروح شأنًا آخر غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة هى في السماء ولها اتصال بفناء القبر وبالبدن فيه، وهى أسرع انتقالًا، ولها بعد المفارقة لذة وألم، وأن الأرواح المنعمة مطلقة لا حجر عليها، وأرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة، وفى عليين، ولكن ذلك لا يمنعها أن تكون في السماء الأولى أو الثانية كما في حديث المعراج، وكذلك أرواح الشهداء والصالحين من غيرهم حرة طليقة تكون عند القبر وتذهب حيث شاءت إلا لمانع من التبعات، والآثار في ذلك كله صحيحة، واللّه أعلم.

وكثيرًا ما يتساءل الناس: هل ما يعمله الإنسان من الصدقات وغيرها يصل إلى الموتى وينفعهم أو لا؟ فنقول: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صومًا أو صدقة أو غيرها، ولا خلاف في هذا بين العلماء، وإنما الخلاف في أنه ينجعل بالجعل ويصل إلى الغير أوْ لا، بل يلغو جعله ولا يصل إليه.

والعبادات أنواع: مالية محضة كالزكاة، وبدنية محضة كالصلاة والتلاوة والذكر والدعاء، ومركبة منهما كالحج، فالإمام مالك والإمام الشافعى -رضى اللّه عنهما- لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة، بل غيرها كالصدقة والحج، والسادة الحنفية يقولون بوصول العبادات مطلقًا. وخالف في كل العبادات المعتزلة وتمسكوا بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (١) وسعى غيره ليس سعيه، وهى وإن كانت مسوقة إخبارًا عما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام فحيث لم يتعقب بإنكار: كان شريعة لنا على ما عرف.

والجواب: أن الآية وإن كانت ظاهرة فيما قال المعتزلة لكن يحتمل أنها منسوخة أو مقيدة، وقد ثبت ما يوجب المصير إلى ذلك وهو ما في الصحيحين "أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته" والملحة: بياض الشعر يشوبه شعرات سود، وفى "سنن ابن ماجه" من حديث عائشة وأبى هريرة

رضى اللّه عنهما: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحى يشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد للّه بالوحدانية وله بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد" وموجوءين: خصيين، ورواه ابن


(١) [سورة النجم: الآية ٣٩].

<<  <   >  >>