للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجاهلية والجاهلين، يندبون كما تندب النائحات فيسبون الدهر ويخطئون المنايا، وقد ورد في صحيح البخارى وغيره: النهى عن سب الدهر، فعن أبى هريرة -رضى اللّه عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال اللَّه تبارك وتعالى: يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدى الأمر أقلب الليل والنهار" ومعناه: أنا خالق الدهر المقدر لما يحدث، فإذا سب ابن آدم الدهر بمعنى الزمان من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى لأنى فاعلها، وإنما الدهر زمان جعلته ظرفًا لمواقع الأمور.

ويذكرون أن الأمة خسرت بموت المرثى خسارة لا تعوض وأن الفضيلة قبرت معه، وأن العلم تيتم، ويعددون من المحاسن والنعوت ما هو كذب صراح وافتراء محض، كقولهم: كان بحر علم مجددًا للدين محييًا للسنة مميتًا للبدعة مرجعًا للمشكلات، وهم يعلمون أن الفقيد على العكس من ذلك، فترى المرثية مصدرة بإساءة الأدب مع اللَّه تعالى مختتمة بالكذب المحرم.

ولما تُوفِّى الخليفة ببغداد أيام الملك الصالح عمل الملك له عزاء جمع فيه الأكابر والأعيان والقراء والشعراء فأنشد بعض الشعراء في مرثيته:

مات من كان بعض أجناده المو … ت ومن كان يختشيه القضاء

فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللّه تعالى وأمر بتأديبه وحبسه وأقام بعد التعزير في الحبس زمانًا طويلًا، ثم استتابه بعد شفاعة الأمراء والرؤساء فيه، وأمره أن ينظم قصيدة يثنى فيها على اللّه تعالى كفارة لما تضمنه شعره من التعرض للقضاء بقوله: من كان بعض أجناده الموت؛ تعظيمًا لشأن هذا الميت، وأن مثله ما كان ينبغى أن يخلو منه منصب الخلافة ومتى تأتى الأيام بمثل هذا ونحو ذلك، وقوله: يختشيه القضاء: يشير إلى أن اللّه تعالى كان يخاف منه، وهذا كفر أو قريب منه. رحم الله الشيخ، فهكذا يكون الرجال وهكذا تكون

العلماء، وحسبك أن اللّه تعالى وصفهم بقوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (١) هى أودية الهجاء المحرم نحوه ممَّا لا يحل قوله.

والمراثى اليوم على فرض خلوها عن كل ما يوجب التحريم الذى منه الكذب فلا تخلو من الكراهة فإن فيها ترك سنة التعجيل بالدفن وفيها


(١) [سورة الشعراء: الآيتان ٢٢٤، ٢٢٥].

<<  <   >  >>