للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تقدم من أن مطلق البكاء في الأحاديث مفيد بما كان بنوح وأن على ذلك إجماع العلماء.

ومنها وهو أحسن الوجوه: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة للميت بما يندبه به أهله أو النائحة كواعضداه، واناصراه، واكاسياه، فحينئذ يتوجه السؤال إلى هذا الميت على لسان بعض الملائكة فيقال له: أنت كما يقال: كنت كاسيًا ومطعمًا وناصرًا إلى غير ذلك. والغرض من هذا السؤال، توبيخ النائحين وتكذيبهم بأن من نسبتم له هذه الخصال يتبرأ منها ولا يسعه في هذا الموطن إلا هذه البراءة، وإلا نزل به الويل الشديد.

ولما كان عاقبة هذا السؤال إظهار حقارة المسئول عند من ينسب إليه هذه الخصال معتقدًا كماله وأن موته ما كان ينبغى، كان السؤال سؤال تهكم وتوبيخ، فلذا يتألم المسئول غاية الألم من نفس السؤال، فما بالك إذا انضم إليه شيء من التحقير والإهانة كما سيظهر لك، وهذا نظير ما يقع لعيسى عليه السلام يوم القيامة

من السؤال: { .. أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ … } (١) فإن الغرض منه توبيخ الكفار وتبكيتهم يإقراره عليه السلام بالعبودية وأمرهم بعبادة اللّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وأيضًا تثبيت الحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم عليه ذلك، ومع هذا ينال عيسى عليه السلام من الشدة: ما في بعض الآثار أنه عليه السلام عند هذا السؤال ترتعد مفاصله ويقشعر جلده خيفة من ربه -عَزَّ وَجَلَّ-.

فأنت ترى أنه عليه السلام مع أنه كان يأمر بعبادة الله وينهى عن عبادة غيره وجه إليه هذا السؤال وناله من الشدة ما ناله، كل هذا للمعنى الذى دعا للسؤال، فهكذا حال الميت في القبر ويوم القيامة كما دل عليه بعض الآثار، يوجه إليه هذا السؤال لمثل ذلك الغرض، وتناله مثل هذه الشدة، ولا يغنيه من هذا السؤال وصيته بعدم النوح عليه، بل متى وقع النوح توجه السؤال إليه.

يدل على هذا التأويل ما رواه أحمد من حديث أبى موسى مرفوعًا: "الميت يعذب ببكاء الحى إذا قالت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه جلد الميت وقال: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها"، وأخرج معناه


(١) [سورة المائدة: الآية ١١٦].

<<  <   >  >>