لو لم يمتثلوا، بل يعذب بمجرد الإيصاء، فإن امتثلوه وناحوا عذب على الأمرين: الإيصاء لأنَّه فعله، النياحة لأنها بسببه.
(ومنها): أنه يعذب بذلك إذا كان سنته وطريقته وقد أقر أهله عليه في حياته وهو تأويل الإمام البخارى وطائفة معه. وحاصله: أن المرء إذا علم ما جاء في النهى عن النوح وعرف أن أهله من عادتهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه وهو إهماله واجب التعليم والزجر لا بفعل غيره بمجرده.
(ومنها): أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها فإنه يرق لهم، وذلك أن الأرواح تتألم من المؤلمات وتفرح باللذات فما البرزخ كما كانت في الدنيا، فالأوضاع البشرية لم تتغير وإنما كانت في مسكن فارقته فقط وبقيت على حالها في أوضاعها. ولما كان البكاء والعويل في حالة الحياة تتأذى به الأرواح وتنقبض كانت بعد الموت تتأذى به كذلك، كان عليها أو على غيرها، وهو عليها أشد نكاية لأنها هى المصابة حينئذ، وقد صح أن الموتى يعلمون أحوال الأحياء وما نزل بهم من شدة ورخاء، وفقر واستغناء إلى غير ذلك ممَّا يتجدد لأهليهم، وأنهم يتألمون لألمهم ويسرون لفرحهم، روى الإمام أحمد والترمذى وابن منده عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرًا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هدينا"، وفى رواية أبى داود:"وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك".
وإذا كان الأمر كذلك كانوا يتألمون بالبكاء عليهم من أهليهم ومن غيرهم والألم عذاب، فلذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت ليعذب ببكاء الحى عليه". فليس يراد به عذاب الذنوب، بل معناه الألم الجبِلِّىِّ الذى إذا وقع في الوجود قد يكون رحمة من الله تعالى لرفع درجات من نزل به، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى