للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعلّ أهلَ العلمِ يأتونَ الى المعاني المُستحيلةِ والألفاظِ المُخْتلّةِ فيقوّمونَ أودَها بعلَلِهم ويُصلحونَ فاسدَها بمعرفَتِهم، ومَنْ هذه سبيلُه فما يحْسُنُ أن يُغضَبَ ولا يُقْشَبَ؛ فرُبَّ داهيةٍ وقع على مَنْ هو أدْهى منه.

وفي حديث يزيد الرّقاشيّ لأبي العبّاس السّفّاحِ رضيَ اللهُ عنه أعجوبةٌ إنْ كان ما أوردَهُ صحيحاً غيرَ موضوعٍ، قال: نزلَ رجلٌ من العربِ بامرأةٍ من بني عامرٍ فأكرمَتْ مثواهُ وأحسنَتْ قِراه، فلمّا أرادَ الرحيلَ أنشد:

لعَمْرُكَ ما تَبْلى سَرابيلُ عامِرٍ ... من اللؤمِ ما دامتْ عليها جُلودُها

فقالت المرأةُ لجاريتِها: قولي لهُ: ألمْ نُحْسِنْ إليكَ وتفعلْ كذا وكذا، فهلْ رأيتَ منا تقصيراً؟ فقال: لا واللهِ، قالت: فما حملَكَ على إنشادِ البيت؟ قال: جرى على لساني فأبْداهُ. فخرَجتْ إليه جاريةٌ من بعض الأخبيةِ فحدّثتْهُ حتى أنِسَ واطمأنّ ثم قالتْ: ممّنْ أنتَ يا بنَ عمّ؟ قال: من بني تميم، قالتْ: أفتَعْرِفُ الذي يقول:

تَميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهْدى من القَطا ... ولو سلَكَتْ سُبْلَ المكارِمِ شلّتِ

أرى الليلَ يجلوهُ النهارُ ولا أرى ... خِلالَ المخازي عنْ تميمٍ تجلّتِ

تَميمٌ كجَحْشِ السَّوْدِ يرضَعُ أمَّهُ ... ويُتْبِعُها رَهْزاً إذا هي زلّتِ

ولوْ أنّ برغوثاً يُزقَّقُ مَسْكُهُ ... إذا نهِلَتْ منهُ تميمٌ وعلّتِ

ولو أنّ برغوثاً على ظهْرِ نملَةٍ ... يكُرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لولّتِ

ولو جمَعَتْ عُلْيا تميمٍ جُموعَها ... على ذرّةٍ معقولةٍ لاسْتَقلّتِ

ولو أنّ أمَّ العنكبوتِ بنَتْ لهُمْ ... مِظلَّتَها يومَ النّدى لاسْتَظَلّتِ

ذبَحْنا فسمّيْنا فحلّ ذبيحُنا ... وما ذبَحَتْ يوماً تميمٌ فسمّتِ

فقال: لستُ من تميم، قالت: ما أقبحَ الكذِبَ بأهلِه فممّن أنت؟ قال: من بني ضَبّة. فأنشدتْهُ هجاءً فيهم، فقال: لا واللهِ ما أنا من بني ضَبّة. ولم يزلْ ينتقلُ من قبيلةٍ الى أخرى وهي تُنشِدُه الهجاءَ فيهم حتى لم يتركْ قبيلةً إلا وانتسبَ إليها وسمعَ هجوها حتى استقالَ وقد أحلّتْهُ دار الهوان وقال: أنا رجلٌ من بني فُلان. والحكايةُ معروفة.

وقريبٌ منها ما رُوي عن المفضلِ الضّبّي، قيل: وردَ عليه أعرابيٌّ على ناقةٍ رثّةِ الأداةِ فسلّم وحسرَ عن وجهٍ كالدينارِ المُشوفِ فقال له المُفضّلُ: ممّن الفتى؟ فقال: طائيّ، فقال المفضَّلُ، وكان حليماً قلّما عجِلَ: طيا يا كلمةٌ فاستمرتِ فقال له الأعرابيّ بلسانٍ ذلقِ السِّنان:

إنّ على سائِلنا أن نسألَهْ ... والعِبءُ لا يُعْرَفُ حتى تَحْمِلَهْ

نسَبْتَنا فانتسِبْ لنا. فقال المفضّل: أحدُ بني ضَبّة. فقال الأعرابي: وإني لأخاطِبُ ضَبيّاً مذِ اليوم، واللهِ لأحسِبُه ذَنْباً عُجِّلَتْ لي عُقوبتُه، أتعرفُ الذي يقول:

إذا لَقيتَ رجلاً من ضَبّهْ ... فبُكْهُ عمْداً على سواء السّبَّهْ

يا أخا بني ضَبّة، كيف عِلمُك بقومِكَ؟ فقال المُفضّل: إني بهِمْ لعالِمٌ، فقال: أيُّ نساءِ قومِك التي تقول:

بِخَلوةِ ليلةٍ وبياضِ يومٍ ... من ابْنِ الوائليِّ شِفاءُ قلبي

بمَحْنِيةٍ أوَسِّدُهُ شمالي ... وأكْفِتُ باليمينِ ذُيولَ إتْبي

وأُلصِقُ بالحَشا مني حشاهُ ... ويَسهُلُ من قِيادي كلُّ صعْبِ

وأُلمِسُ كفَّهُ جثِماً تعالى ... على ركْبٍ كجثّةِ ظهْرِ قعْبِ

فيجمعُ منكبَيَّ إليه حتّى ... ينالَ غدائري بعَفيرِ تُرْبِ

أقولُ له فِداكَ أبي وأمّي ... حياتُكَ من جميعِ الناسِ حسْبي

ثمّ قال: أيُّ عماتِك هذه يا أخا بني ضَبّة؟ وأنشأ يقول:

عَثراتُ اللسانِ لا تُسْتَقالُ ... وبأيدي الرجالِ تَخْزَى الرجالُ

فاجعَلِ العقلَ للّسانِ عِقالاً ... فشِرادُ اللِّسانِ داءٌ عُضالُ

واستفِدْ من فوارِطِ الجهْلِ وانظُر ... كيفَ ترْدَى بالألسُنِ الجُهّالِ

<<  <   >  >>