للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال كثيّر: إنما وصفَ الأعشى صاحبَهُ بالطّيشِ والخُرْقِ والتغرير، ووصفتُك بالحزْمِ وحصافةِ الرأي والعملِ على الحياطة، فرضيَ عبدُ الملكِ بقوله. وقولُ الأعشى في صناعة الشعرِ وحُكْمِ الشّجاعةِ والبسالةِ، أبلغُ وأحسن. وكثيّر مقصّر عن ذلك الوصف ولكنّه عُذْرٌ دفَعَ به خصمَه، وتمّم به نقصَهُ. وهذا كعُذرِه الى محمد بن عليٍّ الباقر رحمهما الله تعالى حين قال له يا كثيّر، أتزْعُمُ أنّك من شيعتنا ومُحبّينا وتمدحُ آلَ مروان؟ قال: يا مولايَ إنّما أسخَرُ منهم وأستهزئُ بهم، وأجعلُهم حيّاتٍ وعقارِبَ وليوثاً، والليوثُ كلابٌ، وآخذُ أموالَهم وملابسَهم، كقولي لعبدِ العزيزِ بنِ مروان حينَ عتَبْتُ عليهِ فنفرَ بعضَ النفور:

وكنتُ عتبتُ معْتِبَةً فلجّتْ ... بيَ الغُلَواءُ عن سَنَنِ العِتابِ

وما زالتْ رُقاكَ تسُلُّ ضِغْني ... وتُخرِجُ من مكانِها ضِبابي

ويَرْقيني لكَ الراقونَ حتّى ... أجابكَ حيّةٌ تحت الحجابِ

فجعلتُه راقياً للحيّات. وقلت لعبد الملك:

تَرى ابنَ أبي العاصي وقد صُفّ دونَه ... ثمانونَ ألفاً قدْ تَوافَتْ كُمولُها

يُقلِّبُ عينَيْ حيّةٍ بمَحارَةٍ ... أضافَ إليها السارياتِ سبيلُها

يصُدُّ ويُغْضي وهْوَ ليْثُ خفيّةٍ ... إذا أمكَنَتْهُ عدْوَةٌ لا يُقيلُها

فلما سمِع رحمَهُ اللهُ ذلك منه قال: يا كُثيّر، من أرادَ الآخرةَ لم يرغبْ في حُطام الدنيا. وهذا دليلٌ على أنه لم يقبلْ عُذْرَ كثيّر، وهو كعُذرِ ابن الرُقيّاتِ في قوله:

وبعضُ القوْلِ يذهَبُ في الرياحِ

والحكايةُ معروفة.

وينبغي للشّاعرِ أن يُقرِّبَ مأخذَهُ ولا يُبعّد مُلتَمَسَه ولا يقصِدَ الإغرابَ فإنه إذا دقّ أغلقَ، وإذا استعملَ وحشيَّ اللغةِ نفرَتْ عنهُ مسامعُ الرّواةِ، وأن يوردَ المعنى باللفظِ المعتادِ في مِثلِه، وأن تكون استعاراتُه وتشبيهاتُه لائقةً بما استُعيرَتْ له وشُبِّهَتْ به، غيْرَ نافرةٍ عن معانيها. فإنّ الشِّعرَ لا تروقُ نضارتُهُ وتشرقُ بهجتُهُ وترقُّ حواشيه، وتورقُ أغصانُه، ويعجبُ أقاحيه، إلا إئا كان بهذه الصِّفَة، وإذا اتفق مع ذلك معنىً لطيفٌ أو حكمةٌ غريبةٌ أو أدبٌ حسَنٌ، فهو زيادةٌ في بهاءِ الشعرِ، وإنْ لمْ يتفقْ فقد قامَ الشعرُ بنفسِه واستغنى عمّا سواه. وإذا سلكَ الشاعرُ غيرَ هذا المذهبِ المُذْهَب، وكان لسانُه ولفظُه مُقصّرَيْن عن إدراكِ هذا المطلبِ، حتى يعتمدَ على دقيقِ المعاني بألفاظٍ متعسّفةٍ، ونسجٍ مُضطَربٍ، وإن اتّفقَ في ضمنِ ذلك شيءٌ من سليمِ الرّصْفِ، وقويمِ النّظْمِ، قُلنا له: قد جِئْتَ بحكمةٍ، فإن شئتَ دعَوْناكَ حكيماً ولا ندعوكَ شاعراً ولا بليغاً؛ لأنك ذهبتَ غيرَ مذْهَبِ الشُعراءِ البُلغاءِ. وهذه طريقةٌ لم يذهبْ إليها من شكرَهُ العلماءُ من أهلِ هذه الصناعة.

وينبغي للشاعرِ ألا يُعاديَ أهلَ العلم ولا يتخذَهم خصوماً فإنهم قادرونَ على أن يجعلوا إحسانَهُ إساءةً، وبلاغتَهُ عِيّاً، وفصاحتَهُ حصْراً، ويُحيلوا معناهُ، وينتقضوا ما بَناه. فكم من أديبٍ أسقطَ أهلُ العلمِ حُكْمَ أدبِه، وأخملُوا من ذكره ما تنبّلَ به. ولو عدَدْناهُم لأفردْنا لهم كتاباً. ولله عمّارٌ الكلبي حيثُ يقول:

ماذا لقيتُ منَ المستَعْربينَ ومنْ ... قياسِ نحوهمُ هذا الذي ابْتدَعوا

إن قُلتُ قافيةً بِكراً يكونُ بها ... بيْتٌ خِلافَ الذي قاسوه أو ذرَعوا

قالوا: لحَنْتَ وهذا ليسَ مُنتَصِباً ... وذاك خفْضٌ وهذا ليسَ يرتَفِعُ

وحرّضوا بينَ عبدِ الله من حُمُقٍ ... وبينَ زيْدٍ فطالَ الضّرْبُ والوَجَعُ

كمْ بيْنَ قومٍ قد احْتالوا لمنطقِهِمْ ... وبينَ قوْمٍ على إعرابِهم طُبِعوا

ما كُلّ قوليَ مشروحاً لكُمْ فخُذوا ... ما تعرِفونَ وما لمْ تعرِفوا فدَعوا

لأنّ أرضيَ أرضٌ لا تُشَبُّ بها ... نارُ المجوس ولا تُبْنى بها البِيَعُ

<<  <   >  >>