فلا يدوم له سرور الهنا، إلا بما هو من حمانا يحلُّه، وبما هو من أعراضنا يستحلُّه.
فيا ليت شعري، أيُّ مصونٍ من سرِّك أذعته، أو مفروضٍ في الخدمة رفضته، أو واجبٌ في الزِّيادة أهملته.
وهل كنت إلا كما قيل: ضيفٌ أهداه بلدٌ شاسع، وأدَّاه أملٌ واسع.
وحداه عقلٌ، وإن قلَّ. وهداه رأيٌ، وإن ضلَّ.
ثم ما أبعدت صحبةٌ إلا أدنت مهانة، ولا زادت حرقةٌ إلا نقصت صيانة. ولا تضاعفت ذمة، إلا تراجعت منزلة.
ولم تزل الغصة بنا حتى صار الوابل رذاذاً، والتشوق المفرط معاذا.
وصار حسن ذلك الالتفات ازوراراً، وطويل ذلك السلام اختصاراً.
وكان المهلب يقول: عجبت لمن يشتري العبيد بماله، كيف لا يملك الأحرار بمعروفه.
وفي الحديث: البشاشة خيرٌ من القرى.
وفي المثل: اليوم العبوس، خيرٌ من الوجه العبوس.
ومن كلامهم: الحوادث الممضة مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثواب مدخر، وتطهير من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقدر النعمة.
وقد شاهدت فيها خامساً؛ وهو صون ماء الوجه عن الذل والهوان.
مولاي يا من له في كلِّ جارحةٍ ... لسان شكرٍ يؤدي بعض ما وجبا
ما هذه الكراهة من فتًى خفيف الجسد والروح، ثقيل الرأس بالعقل، غضيض الجفن بالحيا، طلق الوجه، عف اللسان، رحب الصدر، باسط الكف بالجود، طويل الباع بالإحسان، صافي القلب، سليم الفطرة، محني الضلوع على الأسى، مطوي الجوانح بالهوى، قصير الخطى عن الأذى.
فما محاسن شيءٍ كله حسن
ما فيه لَوٌّ ولا ليتٌّ تنقِّصه ... وإنَّما أدركته حرفة الأدبِ
على أنني والحمد لله لم أكن ... مذاداً مع الحرمان منك ولا شربُ
ولكنني أبردت صدري بنهلةٍ ... من الفضل غُصَّت دون موردها الشَّربُ
وذلك لأني أطلعت التردد إليك، وعولت أمري في طلبي عليك.
ووردت من أنهار فضلك كل معين، وكنت لي في طلبي وأملي خير معين.
والنعمة لا تجحد، والحسنة لا تكفر.
والشمس لا يمكن سترها بحجاب، والبدر لا يخفى ضوؤه وإن كان تحت السحاب.
والكذب شيمة المنافقين، ألا لعنة الله على الكاذبين.
وأنا ما قلت ذلك إلا رائياً أن لا طيب إلا ما اختلط بترابك، وأن لا سعد إلا ما خيم ببابك.
وأن لا ربيع إلا في بقعتك، وأن لا أنس إلا بطلعتك.
وأن لا فرح إلا بقربك، وأن لا ترح إلا ببعدك، وأن لا نشاط إلا بحبك، وأن لا علم إلا ما استفيد منك، وأن لا فضل إلا ما أخذ عنك، وأن لا دليل إلا ما جيء به معزوًّا إليك، وأن لا سند إلا ما أخذ من فيك، ومحالٌ عليك.
لعلمي بأنك البدر الكامل، والفرد الذي ليس له معادل ولا مماثل.
هذا، مع مغالاتي فيك، ومنافستي عليك، ومناظرتي بك، وانتمائي بالفضيلة التامة إليك.
وإنشادي مستمسكاً بحبل ودادك، ومتمسكاً بترب مهادك.
ومعتقداً أن رضاك ثوابٌ، وغضبك عقاب. ورغبتك إحسان، ورهبتك خسران.
وإعراضك جحيم، والتفاتك نعيم. ومثلك لا مثل يضاهيك.
إن غضب تجمل، وإن تأذى ولو بوهمٍ تحمل.
وإن جاء فاسقٌ بنباءٍ تبصر واستفسر، وإن ثبت لديه شيءٌ ولو دعاء اغتفر واستهتر.
فهاتِ قل لي يا من مكانته ... في القلب قد حلَّها بمفرده
أي جوابٍ لمن يسأل عن حلمك، واستفسر عن ثمرة علمك. فإن الحلم، ثمرة العلم. وهو دالٌّ عليه، كدلالة النور على الثمر، والهالة على القمر. وقد وجد كماله فيك، وظهرت ثمرته عليك، وتذللت قطوفه دانيةً إليك.
وأعود فأقول: بعض هذا الجفا يا مولاي يكفي، وجزءٌ من هذا الإعراض يجزي. وفي قليلٍ من صدودك انتقام كثير، وفي يسيرٍ من هجرك إسرافٌ وتبذير. وفي أدنى ما بلغني عنك كافٍ ومقنع، وفي أقل ما رأيته منك للقلب مؤلم وموجع. وفي المثل: من يسمع يخل، ومن يكثر يمل. وأظن أن الداعي إلى مهاجرتي نميمةٌ جاء بها فاسق، ونبأ افتراه كاشح.
ومع ذلك لو ارتكبت جريرةً لما استحقيت من القطيعة المهلكة أعظم مما رأيته وقاسيته، ولو اكتسبت كبيرةً لما استوجبت من العقوبة المنهكة بعض ما عاينته وعانيته. ولو أشركت، والعياذ بالله تعالى، لمحت ذنبي التوبة والاستغفار، ولو كفرت، معاذ الله، لغطت على كفري الندامة والاعتذار.