للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهي في الاصطلاح أن يذكر لفظ له معنيان, أما بالاشتراك, أو التواطيء, أو الحقيقة والمجاز. أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة, والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية, فيقصد المتكلم المعنى البعيد, ويوري عنه بالقريب, فيتوهم السامع أنه يريد القريب من أول وهلة, ولهذا سمي أبهاما.

قال العلامة الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية, ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم السلام.

قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي في ديباجة كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام: ومن البديع ما هو نادر الوقوع, ملحق بالمستحيل الممنوع, وهو نوع التورية والاستخدام, فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام.

نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يعدو مقفلا

لا يفرع هضبته فارع, ولا يقرع بابه قارع, إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب, ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب. انتهى.

وإذا عرفت معنى التورية فاعلم أنها تنقسم إلى أربعة أنواع: مجردة, ومرشحة, ومبينة, ومهيأة.

فالنوع الأول وهي المجرد.

هي التي تنجرد عما يلائم كلا من المعنيين, أعني المورى به والمورى عنه. قالوا: فأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فإن الاستواء يطلق على معنيين, فالتورية لم يجامع شيئا مما يلائم المورى به ولا المورى عنه. واعترض بعض المحققين: بان فيه ما يلائم المورى به وهو العرش, لأنه ملائم للاستقرار, فهي إذن مرشحة لا مجردة. ومنه قوله صلى الله عليه وآله سلم في خروجه إلى بدر, وقد قيل له: من أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل فقال: من ماء, أراد أنا مخلوق من ماء فورى عنه بقبيلته من العرب.

وقول صاحبه في خروجهما إلى المدينة من الغار وقد سئل عنه صلى الله عليه وآله وسلم, فقيل له: يا أبا بكر من هذا؟ فقال: هاد يهديني السبيل. أراد سبيل الخير فورى عنه بهادي الطريق.

وفي النهاية لابن الأثير: لقيهما في الهجرة رجل بكراع الغميم فقال من أنتم؟ فقال أبو بكر: باغ وهاد. عرض ببغاء الإبل, أي طلبها, وهداية الطريق, وهو يريد الطلب, والهداية من الضلالة.

وعد الصلاح الصفدي من هذا النوع _وتبعه ابن حجة_ قول القاضي عياض:

كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعا من الحلل

أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل

يعني كأن الشمس من كبرها وطول مدتها صارت خرفة قليلة العقل فنزلت في برج الجدي في أوان الحلول ببرج الحمل. والشاهد في الغزالة, فإنه لم يذكر معها شيء من لوازم الغزالة الوحشية, وهو المورى به كطول العنق, وحسن الالتفات, وسرعة النفور, وسواد العين. ولا شيء من لوازم الغزالة الشمسية, كالإشراق؛ والطلوع, والأفول.

قال: وليس القائل أن يقول: إن الغزالة قد ترشحت بالجدي والحمل, وهي مرشحة لهما, لأنا نشترط في لوازم التورية أن لا يكون لفظا مشتركا, والغزالة هنا مشتركة, وكذا الجدي والحمل فإنهما يطلقان على الحيوان المعروف, وعلى بعض البروج. انتهى بالمعنى.

والذي مشى عليه الخطيب في الإيضاح, والعلامة التفتازاني في المطول أنها من المرشحة.

قال في المطول: أراد بالغزالة معناها البعيد, أعني الشمس, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي ليس بمراد, أعني الرشأ, حيث ذكر الخرافة وكذا ذكر الجدي والحمل. انتهى.

وقد يقال: أنه فسر الخرافة بقلة العقل وهي لا تناسب الرشأ, لأنه لا عقل له, ويجاب بأن المراد به قلة الإدراك. لا يقال: الغزالة بالتاء مخصوصة بالشمس, ولا يقال لأنثى الغزال: غزالة, بل ظبية, كما نص عليه اللغويون فلا تصح التورية فيها. لأنا نقول: لم يثبت إجماع اللغويين على ذلك, بل حكى بعض الثقات منهم أنه يقال لأنثى الغزال: غزالة. قال أبو حاتم وهو أعلم اللغويين وأضبطهم بلا خلف: ولد الظبية أو ما يولد فهو طلا, ثم هو غزال والأنثى غزالة. وقال ابن السيد: الغزال: ابن الظبي إلى أن يقوى ويطلع قرناه, والجمع غزلة وغزلان, مثل غلمة وغلمان, والأنثى غزالة.

<<  <   >  >>