تنبيه, قال بعض علماء هذا الفن: إذا أتيت في التورية بلازم لكل من المعنيين فتكافئا ولم يترجح أحدهما على الآخر فكأنك لم تذكر شيئاً من اللازمين, وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة واحدة فتلحق هذه التورية بالمجردة, وتعد منها قسما ثانيا وتصير مجردة بهذا الاعتبار.
كقول ابن الوردي:
قالت إذا كنت تهوى ... وصلي وتخشى نفوري
صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري
فقوله: ورد خدي, يلائم أن يراد بقوله: جوري, اسم نوع من الورد, وهو المعنى المورى وهو المقصود. وقوله: وإلا أجور يلائم لأن يراد به فعل الأمر المستند إلى ضمير الواحدة, وهو المعنى القريب المورى به.
والنوع الثاني وهي المرشحة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى المورى به إما قبل التورية أو بعده فهي قسمان: الأول ما جامع قبل التورية, كقوله تعالى "والسماء بنيناها بأيد" فإنه أراد (بأيد) معناها البعيد, أعنى القدرة, وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب, أعنى الجارحة, وهو قوله (بنيناها) هكذا قاله غير واحد, لكن قال السبكي في عروس الأفراح: وفيه نظر, لأن قوله تعالى (بأيد) له معنيان ... إلى آخره من الحواشي. انتهى.
وألطف تورية وقعت من هذا النوع المتقدم, قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة:
وجدنا أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
فلما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر
فإن لفظ (أغضينا) قبل (الجفون) رشحه للتورية, ورجحه في الظاهر لإرادة إغماض جفون العيون على إغماض السيوف, بمعنى إغمادها, لأن السيف إذا أغمد انطبق عليه, وإذا جرد انفتح للخلاء الحاصل بين الدفتين, لكن دل سياق كلامه على إرادة أنهم لا يغمدون سيوفهم ولهم وتر عند أحد.
وقول الآخر:
حملناهم طرا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
الشاهد في الدهم, فإنه يحتمل الخيل الدهم وهو المعنى القريب المورى به, وقد تقدم لازمه المرشح له وهو لفظ الحمل, لأنه من لوازم الخيل, ويحتمل القيود وهو المعنى البعدي المورى عنه وهو المراد, لأنه أراد تقييد العدى, الثاني ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول الصاحب عطاء الملك في امرأة اسمها شجر:
يا حبذا شجر وطيب نسيمها ... لو أنها تسقى بماء واحد
الشاهد في شجر, فإنه يحتمل ماله ساق من النبات وهو المعنى المورى به, وقد رشحه بعد التورية بما يلائمه وهو طيب النسيم والسقي بماء واحد ويحتمل اسم المرأة وهو المعنى المورى عنه وهو المقصود.
النوع الثالث وهي المبينة.
هي التي تجامع ملائما للمعنى البعيد المورى عنه إما قبلها أو بعدها, فهي أيضاً قسمان. الأول, ما جامع ملائما قبل التورية.
كقول شيخ الشيوخ بحماة:
قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى
يا عاذلي دونك من لحظة ... سهما ومن عارضه سطرا (ى)
الشاهد هنا في السهم وسطرى, فإن المعنى المورى عنه هما الموضعان المشهوران من منتزهات دمشق, وقد جامعا ما يلائمهما قبلهما وهو ذكر النزهة, وإما المعنى القريب فسهم اللحظ, وسطر العارض. الثاني, ما جامع ملائما بعد التورية.
كقول ابن سناء الملك:
أما والله لولا خوف سخطك ... لهان علي ما ألقى برهطك
ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك
فإنه أراد بالخافقين قلبه وقرط محبوبته, وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه, وقد بينه بالنص عليه في المصراع الأخير. ويحتمل أن يريد المشرق والمغرب, وهذا هو المعنى القريب المورى به.
والنوع الرابع وهي المهيأة.
هي التي تفتقر إلى ذكر شيء يهيئها لاحتمال المعنيين, أما قبلها, أو بعدها, وإلا لم تتهيأ التورية, أو تكون بلفظين أو أكثر لولا كل منها لم تتهيأ التورية في الآخر. فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام.
الأول, ما تهيأت بلفظ قبلها.
كقول الشيخ أحمد ابن عيسى المرشدي في شداد ناقة لشريف مكة المشرفة. والشداد في عرف أهل الحجاز: الرحل.
أفق الشداد بدت به ... شمس الخلافة والهلال
ومن العجائب جمعه ... ليث الشرافة والغزال