أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: هذا الذي أثنيت به عليك أنت أهله, ثم قال: غلطت ليس هذا ثلثي ما أنت أهله ولا نصفه.
وقوله أيضا:
دمعي جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى ولا كربا
يعني أنه بكى في أطلال الأحبة ما وجب لهم, وشفاه من وجده بهم, ثم رجع عن ذلك وقال: أنى أي كيف قضى ذلك ولا كرب, أي ولا قارب ذلك, يعني أنه لم يقض الحق, ولا شفى الوجد, وذلك أنه لما أكثر البكاء غلب على ظنه أنه بلغ قضاء حقهم وشفى وجده, ثم أنه عرف قصوره فرجع عما قال.
وعد منه الشيخ صفي الدين الحلي قول بشار:
نبت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير وهل علي أمير
ومثله قولي من قصيدة:
ما على من حملوها قمرا ... يهتدي الركب به إن جن جنح
لو أصاخوا للمعنى ساعة ... يشرح الوجد وهل للوجد شرح
قال ابن حجة: الذي أقول: إن هذا النوع لا فرق بينه وبين السلب والإيجاب. فإن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة, وإثبات من جهة أخرى, والرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض, وكل من التقريرين لائق بالنوعين. انتهى.
قلت: إني لا عجب من غباوة ابن حجة في هذا المقال, فإنه جعل ما هو حجة عليه حجة له, والفرق بين النوعين ظاهر من الحدين المذكورين للنوعين ظهور فلق الصباح, وأين نفي شيء من جهة وإثباته من أخرى, من العود على الكلام السابق بالنقض, فإن مفاد حد الرجوع: أن النفي والإيجاب يتواردان على معنى واحد, وحد السلب والإيجاب: أن النفي يكون باعتبار, والإيجاب باعتبار آخر, وبين الحالتين بون بائن فاعلم.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات أن العذر لم يقم
وبيت بديعية ابن جابر قوله:
قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم
ليس في هذا البيت - كما قال ابن حجة - سوى الرجوع عن حشمة الألفاظ في مديح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم, فإن قوله: سديد القول دون مقدار من أنزل القرآن في صفاته, وأقسم الرحمن بحياته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم
لا يخفى أنه قد تقدم في حد هذا النوع أنه العود على الكلام السابق بنقضه وإبطاله, وابن حجة لم يبطل ما تقدم, بل نفى رجوعه عن حماه, وأثبت رجوعا آخر, وهذا من نوع السلب والإيجاب, لا من هذا النوع. لكن قد علمت أنه لم يفرق بين هذين النوعين فبنى بيته على حسب اعتقاده, وقد مر البحث معه آنفا.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
بلا رجوع فمدحي فيك قام بما ... يليق هيهات ذاك المدح لم يقم
لا يخفى ما في هذا البيت من قلة الأدب مع سيد العجم والعرب, ولعمري أنه قام بما لا يليق, لا بما يليق وإن كان قد رجع, إلا أنه ما رجع حتى اشمأزت النفوس, وملت الظنون, وبلغت القلوب الحناجر. ولا ريب أنه أراد أن يحوك على منوال بيت الشيخ صفي الدين, وهيهات أين حشمة بيت الشيخ صفي الدين من هذا.
وبيت بديعيتي هو قولي:
ولا رجوع لغاوي نهج ملته ... بلى بإرشاده الكشاف للغمم
دل أول البيت على أن من ضل طريق ملته صلّى الله عليه وآله لا رجوع له بوجه - فإن النكرة في سياق النفي تعم - ثم رجع إليه ونقضه لنكتة, وهي إظهار استعظام رجوع من ضل سبيل دينه صلّى الله عليه وآله وسلم حتى كأنه أخبر أولا بما لم يتأمل فيه, ثم تأمل فتدارك الكلام السابق فقال: بلى له رجوع بإرشاده الكشاف للغمم.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
قد كرر العبد مدحا كافيا وثنا ... هيهات لا مدحي تكفي ولا كلمي
١ @التورية
ردت بمعجزه من غير تورية ... له الغزالة تعدو نحو أفقهم
التورية أقرب اسم سمي به هذا النوع لمطابقته المسمى, لأنه مصدر وريت الحديث: إذا أخفيته وأظهرت غيره. قال أبو عبيد: لا أراه إلا مأخوذاً من وراء الإنسان, فإذا قال: وريته فكأنه جعله وراءه بحيث لا يظهر. ويسمى الأبهام, والتوجيه, والتخييل.