ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا لبسته المظلمات الحنادس
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا؟ وذاك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الانقاء، ألا ترى إلى قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب ... وفي القلاد رشأ ربيب
فقلب ذو الرمة العرف والعادة في هذا، فشبه كثبات الانقاء بإعجاز النساء، وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع، وهذا المعنى لإعجاز النساء، وصار كأنه الأصل، فشبه به كثبان الانقاء.
مثله للطائي الصغير - يعين أبا عبادة البحتري -:
في طلعة البدر شيء من ملاحتها ... وللقضيب نصيب من تثنيها
وآخر من جاء به شاعرنا - يعني أبا الطيب المتنبي - فقال:
نحن ركب ملجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال
فجعل كونهم جنا أصلا، وكونهم ناسا فرعا، وجعل كون مطاياهم طيرا أصلا، وكونها جمالا فرعا. انتهى ملخصا.
فقولي (إلا غصونا شبهت بهم) من هذا الباب، لأن العرف والعادة تشبيه القدود بالغصون فقلبت ذلك، وجعلت الغصون مشبهة بقدودهم مبالغة.
ومنه أيضاً قولي من قطعة تقدم إنشادها في نوع الافتنان وهو:
في ليلة مدت غياهبها ... من فرعها كالفاحم الجعد
فإن العرف تشبيه الشعر الفاحم بالظلمة، فقلبت ذلك وشبهت الظلمة به.
إذا عرفت ذلك، فالتكميل في بيت بديعيتي باشتماله على هذين المعنيين أكمل منه في بيت ابن حجة والله أعلم.
وبيت بديعية الشرف المقري قوله:
أهوى حياتي إلا حيث لم أرهم ... وأكره الموت إلا في جوارهم
فالمعنى الزائد على معنى الاستثناء في هذا البيت أظهر من أن ينبه عليه.
[مراعاة النظير]
وقد قصدت مراعاة النظير لهم ... من جلنار ومن ورد ومن عنم
هذا النوع أعني مراعاة النظير، سماه قوم بالتوفيق، وآخرون بالتناسب وجماعة بالائتلاف، وبعضهم بالمواخاة.
قالوا: وهو عبارة عن أن يجمع المتكلم بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى، أو لفظا للفظ، أو معنى لمعنى، إذ القصد جمع شيء وما يناسبه من نوعه، أو ملائمة من إحدى الوجوه. انتهى.
ولا يخفى أن هذا التفسير يدخل فيه ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، وكل من هذه الأقسام عده أرباب البديعيات نوعا برأسه، ونظموا له شاهدا مستقلا، وجعلوه مغايرا لهذا النوع، مع أنهم مثلوا لائتلاف اللفظ بما مثلوا به لمراعاة النظير بعينه ولا وجه لذلك، بل كان الصواب تنويع هذا النوع إلى هذه الأنواع الثلاثة كما فعل صاحب التبيان، حيث قال: مراعاة النظير هو أن يجمع بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد، وهو أصناف: الأول - ائتلاف اللفظ والمعنى. والثاني - ائتلاف اللفظ مع اللفظ. والثالث - ائتلاف المعنى مع المعنى. وهذا كتنويعهم اللف والنشر إلى أنواعه المذكورة، والالتفات إلى أنواعه الستة، وغير ذلك من أنواع البديع التي هي تتنوع إلى أنواع. وإذ قد اصطلح أرباب البديعيات على جعل مراعاة النظير نوعا برأسه، وكل من ائتلاف اللفظ والمعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، نوعا برأسه، فينبغي أن يحد كل منها بحد لا يشمل الآخر.
فيحد مراعاة النظير: بأنه عبارة عن أن يجمع المتكلم بين لفظين أو ألفاظ متناسبة المعاني، أما حقيقة أو ظاهرا. فالأول كقوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) . فالشمس والقمر متناسبا المعنى حقيقة، من حيث اشتراكهما في وصف مشهور، وهو الإضاءة.
والثاني كقول مهيار الديلمي:
ومدير سيان عنياه والإبريق فتكا ولحظه والمدام
فمعنى الإبريق مناسب لمعنى المدام، إذ الإبريق يطلق على إناء الخمر، لكن هذه المناسبة ظاهرية، إذ ليس مقصوده بالإبريق هذا المعنى، بل مقصوده به السيف، سمي بذلك لبريقه، فخرج عن هذا الحد لمراعاة النظير؛ ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف المعنى مع المعنى، وسيأتي كل منهما في محله إن شاء الله تعالى.