ولما بلوناكم تلونا مديحكم ... فيا طيب ما نبلو ويا صدق ما نتلو
طوينا لرؤياك الملوك وإنما ... بمثلك عن أمثالهم مثلنا يسلو
فدى لك من أبناء دهرك من غدا ... ولا قوله علم ولا فعله عدل
فيا ملكا أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السماحة والبذل
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
محاسن يبديها العيان كما ترى ... فإن نحن حدثنا بها دفع العقل
فقولا لو سام المكارم باسمه ... ليهنك إذ لم تبق مكرمة غفل
وجاراك أفراد الملوك إلى مدى ... وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل
سما بك من عمرو بن يعقوب محتد ... كذا الأصل مفخوراً به وكذا النسل
هذا هو الشعر الذي يخجل الدرر في الأسلاك، بل الدراري في الأفلاك. ولا غرو فهذا البديع هو إمام المقامات الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه في ديباجة مقاماته بقوله: إن التصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته ولله القائل:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
فإن البديع هو الذي أبدع المقامات، فأملى أربعين مقامة، عزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام، وجد يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول. فقفى الحريري إثر عيسى بن هشام بالحرث ابن همام، وأثر الإسكندري بأبي زيد السروجي.
وسئل بعض علماء الأدب عن الحريري والبديع في مقاماتهما فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى بديع يوم، فكيف يقارب بديع الزمان.
رجع إلى ما نحن بصدده من حسن المناسبة في مراعاة النظير.
فمن المستحسن منه قول بديع الزمان أيضاً في الاعتذار من النحافة:
هلم إلى نحيف الجسم مني ... لتنظر كيف آثار النحاف
ولي جسد كواحدة المثاني ... له كبد كثالثة الأثافي
وما أحسن ما ناسب بين ألفاظ الأعداد وترقى فيها من الواحد إلى الثلاثة على ترتيبها، بمعنى يجمعها ويضم أطرافها. قال الباخرزي في الدمية: ولا يكاد ينقضي إعجابي بهذا البيت.
ومنه قول أبي منصور الثعالبي:
طالع يومي غير منحوس ... فسقني يا طارد البوس
خمرا كعين الديك في روضة ... كأنها حلة طاووس
وما ألطف وأبدع قول ابن مطروح:
لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل
ومثله قول العماد التلمساني:
شقت عليك يد الأسى ... ثوب الدموع إلى الذيول
وأبدع القاضي الفاضل في قوله:
في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقليب الطائر
ومنه قول الأديب أبي القاسم بن العطار:
وسنان ما أن يزال عارضه ... يعطف قلبي كعطفة اللام
لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رام
وقول التهامي:
وعصابة مال الكرى برؤوسهم ... ميل الصبا بذوائب الأغصان
ما أحلى ما ناسب بين العصابة والرؤوس والذوائب. قال الصفدي: وهذا المعنى والألفاظ تكاد ترقص لها السطور، وتحلى بدرره الترائب من الغواني والنحور.
وما أعلم مثله في بديع صناعته غير قول أبي الطيب المتنبي:
على سابح موج المنايا ببحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل
فإنه ناسب فيه بين السابح والموج، والبحر والوبل.
ومنه قول الأديب الفاضل شرف الدين يحيى العصامي من فضلاء العصر:
سفينة أشعار هي البحر درها ... نتائج أفكار وشتى معارف
بها اللفظ كأس والمعاني مدامة ... وما ذاق منها نشوة غير عارف
وعلى ذلك فما ألطف قوله أيضاً:
رأى سقم الكتاب فمال عنه ... سقيم الجفن ذو حسن بديع
فقلت له فدتك النفس هلا ... مراعاة النظير من البديع
ومما وقع لي من هذا النوع قولي من قصيدة طويلة مدحت بها الوالد:
كأن المذاكي المقربات يقودها ... عرائس تجلى إذ يراد لها زف
وقد أسدلت من ثائر النقع دونها ... ستور ولم يرفع لمسد لها سجف
فناسب بين العرائس والزف، والستور والأسدال والسجف.