للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقولي في مطلع قصيدة أخرى خمرية:

طاف بدر الدجى بشمس الكؤوس ... في نجوم من الندامى جلوس

وقلت بعده:

فكأن المدام في الكأس إذ تج ... لى سراج يضيء في فانوس

قهوة عسجدية من كناها ... بنت رأس مقرها في الرؤوس

هي لهو لنا إذا حلت الكا ... سولاه في دنها للمجوس

لقبت بالعجوز وهي عروس ... فاعجب اليوم للعجوز العروس

هذا المعنى ما أظن أني سبقت إليه، ولا زاحمني أحد عليه، وكررته في قصيدة خمرية أخرى.

فقلت:

جليت كالعروس وهي عجوز ... من عذيري من العروس العجوز

وقلت بعد البيت السابق وفيه شاهد لما نحن فيه أيضاً:

قام يسعى بها كعين الديك ساق في حلة الطاووس

ذو دالالة يبدي نفيس جمال ... فيفدى بغاليات النفوس

راضه السكر فاقتنى الرشأ الوحشي أنسا من خلقه المأنوس

بين حور من الحسان بدور ... وحوال من الغواني شموس

ورياض بها الأقاح ثغور ... يتبسمن في الزمان العبوس

يا ليالي الهنا إلينا فأنا ... في زمان المدام من كل بوس

قد حسونا من السلاف رضابا ... ورشفنا الثغور رشف الكؤوس

وجمحنا عن الهموم شماسا ... مذ غدونا على الكميت الشموس

هذا أيضاً فيه حسن المناسبة بين الجموح والشماس، والكميت والشموس.

وأما النوع الثاني من مراعاة النظير، وهو ما كانت المناسبة فيه ظاهرية فأعظم شواهده قول أبي العلاء المعري:

وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيره النقط

فإنه ناسب بين حروف الهجاء والرسم والنقط، ومقصوده غيرها، لأنه أراد (بالحرف) الناقة و (بالراء) الراكب الذي يضرب رئتها، و (بالدال) الرافق بها، و (بالرسم) رسم المنزل، و (بالنقط) المطر.

ومثله قوله أيضاً:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال

فناسب في الظاهر بين الجد الذي هو أب الأب، والعم الذي هو أخوه، والخال الذي هو أخو الأم، وليس ذلك مقصوده، بل أراد (بالجد) الحظ و (بالعم) الجماعة من الناس، و (بالخال) الظن. ولا يخفى أن هذا النوع من التورية، وسيأتي الكلام عليه في محله إنشاء الله تعالى.

واعلم أن الشاعر متى أدخل بين الألفاظ المناسبة لفظا غير مناسب عد نقصا وعيبا كما عيب على أبي نواس قوله:

قد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذب

برب زمزم والحو ... ض والصفا والمحصب

فإن ذكر الحوض هنا غير مناسب للمذكورات، وإنما يناسب الحشر والميزان والسراط.

وكذا يعاب على الشاعر إذا قرن بين لفظين غير متناسبين. كما حكى ابن جني أنه اجتمع الكميت مع نصيب، فأنشد الكميت (هل أنت عن طلب الإيفاع منقلب) .

حتى إذا بلغ إلى قوله:

أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الدل والشنب

عقد نصيب بيده واحدا، فقال الكميت: ما هذا؟ فقال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: الدل والشنب.

ألا قلت كما قال ذو الرمة:

لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وهذا مما يدلك على أن المحسنات البديعية كانت معتبرة عند العرب وأنهم يهتمون بها ويعدون خلافها خطأ وعيبا في الكلام.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

تجار لفظ إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم

المناسبة فيه بين التجار والسوق، واللجة والجوهر.

وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:

يروي حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومبتسم

قال رفيق الناظم - أبو جعفر - شارح هذه البديعية: العنعنة في البيت ب (عن) تناسب الرواية في الحديث، والندى والبشر فيهما مناسبة الكرم. انتهى.

قال ابن حجة: هذا لعمري جهد من لا جهد له، وإلا فهذا البيت ما رأيت له وجها تظهر به مراعاة النظير، ولا بينه وبين النسبة البديعية نسب ثابت. انتهى.

وأنا أقول: إن المناسبة في البيت أظهر من أن تخفى، ولا أعلم كيف لم يبينها الشارح بأكثر مما ذكر. فإن بين الرواية والحديث وعن مناسبة - كما قال - وبين البشر والوجه والابتسام مناسبة أخرى ظاهرة لم ينبه عليها الشارح، ولم يرها ابن حجة، مع أن الأعمى إنما هو الناظم.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

<<  <   >  >>