ألفاظ المناسبة في هذا أكثر كما لا يخفى، فإنها هناك ثلاثة، وهنا خمسة.
ومن أعجب ما وقع في هذا النوع قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
حيرني روض على خده ... ويلي من ذاك وويلي عليه
أي جنى يقطف من حسنه ... وكل ما فيه حبيب إليه
نرجستي عينيه أم وردتي ... خديه أم ريحانتي عارضيه
هذا هو الشعر الذي قيل فيه: إنه أرق أنفاسا من نسيم السحر، وأدق اختلاسا من النفاث إذا سحر.
وقول ابن زيلاق في مليح محروس بخادم:
ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر
عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخالك ياقوت وخدك عنبر
فناسب بين العذار والثغر، والخال والخد، وبين ريحان وجوهر، وياقوت وعنبر، لوضعها غالبا أسماء للخدام.
وما أحسن قول الزغاري في هذا النوع:
كأن السحاب العز لما تجمعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب وكف الريح حالب ضرعها
فإنه أتى بالتشبيه الغريب، وحسن المناسبة العديمة النظير في مراعاته مع حلاوة الانسجام، ولطف المعنى.
ومن بديعه قول الشيخ عمر بن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم
فأبدع في المناسبة بين البدر والشمس والهلال والنجم، وبين الكأس والإدارة والمزج.
ومن الغايات التي حسرت دونها سوابق الأفكار في هذا النوع البديع، قول البديع الهمداني من قصيدة يمدح بها خلف بن أحمد وإلى سجستان مطلعها:
سماء الدجى ما هذه الحدق النجل ... أصدر الدجى حال وجيد الضحى عطل
وبعده يصف طول السرى وهو المقصود بالإثبات هنا:
لك الله من عزم أجوب جيوبه ... كأني في أجفان عين الردى كحل
كأن الدجى نقع وفي الجو حومة ... كواكبه جند طوائرها الرسل
كأن مطايانا سماء كأننا ... نجوم على أقتابها برجنا الرحل
كأن السرى ساق كأن الكرى طلا ... كأنا له شرب كأن المنى نقل
كأن الفلا ناد به الجن فتية ... عليه الثرى فرش حشيته رمل
كأنا جياع والمطي لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل
كأنا على أرجوحة في مسيرنا ... بغور بنا يهوي ونجد بنا يعلو
ومنها في وصف براعته، ودواته ويراعته، ولم يخرج عما نحن فيه:
كأن غمي قوس لساني له يد ... مديحي له نزع به أملي نبل
كأن دواتي مطفل حبشية ... كأني لها بعل ونقشي لها نسل
كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمي تغلو
تأمل أيها الناظر في هذه العارضة القوية، والملكة التي لا يستطيعها ذو بديهة ولا روية، فإنه ما شاد بيتا إلا وعمره بمحاسن مراعاة النظير، وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات التي يحسدها الروض النضير. وأنا ما زلت معجبا بهذه القصيدة أشد الإعجاب، مشغوفا بمحاسنها التي ما خرق مثلها للسمع حجاب.
وقد عن لي أن أثبت بقية ما حضرني منها هنا، لينتظم شملها بما قبلها ويتملى بها من أراد أن يتأملها - وإن كان بعضها قد سبق ذكره في نوع التفويف - فما أحسن قوله بعد ما تقدم من التشبيه يذكر أباه بهمدان، واستقباله الحجيج للسؤال عن خبره، والبحث عن وطنه ووطره.
ثم تخلص إلى المديح أحسن تخلص، وجاء من المديح بما بهر الألباب، واستفز أولي الآداب، وهو:
يذكرني قرب العراق وديعة ... لدى الله لا يسليه مال ولا أهل
حنته النوى بعدي وأضنته غيبتي ... وعهدي به كالليث جؤجؤه عبل
إذا ورد الحجاج لاقى رفاقهم ... بفوارتي دمع هما النجل والسجل
يسائلهم أين ابنه كيف داره ... إلى م انتهى لم لم يعد هل له شغل
أضاقت به حال أطالت له يد ... أأخره نقص أقدمه فضل؟
يقولون وافى حضرة الملك الذي ... له الكنف المألوف والنائل الجزل
فقيد له طرف وحلت له حبي ... وخير له قصر ودر له نزل
يذكرهم بالله ألا صدقتم ... لدي أجد ما تقولون أم هزل؟
كأن أبانا أودع الملك الذي ... قصدناه كنزا لم يسع رده مطل