أيام لا النوم في أجفاننا خلس ... ولا الزيارة من أحبابنا لمع
إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللذات لي شيع
وما ألطف قول ابن الساعاتي في مثل هذه المناسبة:
السحب رايات ولمع بروقها ... بيض الظبا والأرض طرف أشهب
والند قسطلة وزهر شموعنا ... صم القنا والفحم نبل مذهب
وما أبدع قول بعضهم في آل بيت النبي صلوات الله عليهم:
أتنم بنو طه ونون والضحى ... وبنو تبارك والكتاب المحكم
وبنو الأباطح والمشاعر والصفا ... والركن والبيت العتيق وزمزم
فإنه أحسن في المناسبة في الأول: بين أسماء السور، وفي الثاني: بين الجهات الحجازية.
ومثله قول الآخر في بني هاشم:
بني هاشم عفو عفا الله عنكم ... وإن كان ثوبي حشوه اليوم مجرم
لكم حرم الرحمن والبيت والصفا ... وجمع وما ضم الحطيم ومزم
فإن قلتموا باديتنا بعظيمة ... فأحلامكم فيها أجل وأعظم
وقول ابن رشيق:
أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
فأجاد ما شاء في المناسبة بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، ثم بين السيل والحياء، والبحر وكف تميم، لما شاع بين الشعراء من جعل كف الممدوح سحابا وبحرا ونحوهما، مع ما فيه من حسن الترتيب في الرتقي، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث. فإن السيول أصلها المطر، والمطر أصله البحر (على ما يقال) والبحر أصله كف الممدوح على ادعاء الشاعر، مع رعاية العنعنة المستعملة في الأسانيد.
قال ابن حجة في باب المناسبة - بعد ذكره هذين البيتين - أقول: إنني زاحمت ابن رشيق هنا بالمناكب، وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب، وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي علاء الدين القضامي بموشح ببيت مخلصه تحفة في هذا الباب، لأن مناسبته المعنوية رفعت عن وجه محاسنها الحجاب، وهو:
رقم السوالف يروي لي بمسنده ... عن رقمتي حيهم يا طيب مورده
وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت ... عن برق ذاك النقا أيام معهده
والريق أمسى عن المرد ... يروي حديث العذيب مسند
عن الصفا عن مذاق الشهد والعسل ... عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي
قال: وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف محاسن هذا البيت، ومناسبته المعوية، فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل. انتهى كلامه.
قلت: هيهات، أين الثريا من الثرى، وأين مطلع سهيل من موقع السيل، على أن هذه الرواية المعنعنة التي ذكرها في مخلصه هذا إنما كانت تحسن عن ذوق المحبوب، لا ذوق الممدوح، وهذا من الغلط بوضع الكلام في غير موضعه.
كما قالوا في قول المتنبي:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
قالوا: إن هذه الغيرة إنما تكون بين المحب والمحبوب، كما قال كشاجم:
أغار إذا دنت من فيه كأس ... على رد يقبله زجاج
فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها، اللهم إلا أن يكون بين ابن حجة وبين شيخه الممدوح أمر يقتضي هذه الرواية المعنعة عن ذوقه، فهو أدرى به.
ومن محاسن هذا النوع أيضاً قول ابن الخشاب في المستضيئ:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال صاحب التبيان: انظر إلى هذين البيتين فإنهما كادا يجريان مع الماء في السلاسة، مع أن قائلهما لم يتجانف فيهما عن حكاية الماء، وما يناسبه، حتى عد فيهما ائتلاف عشر. انتهى. أي ائتلافا بين عشرة أشياء، هي: الورد، والسلسال، والارتواء، والورد، والحائم، والظمأ، والخفة؛ والزحمة، ثم الورد مرة أخرى والتزاحم.
وقال أبو العلاء المعري:
دع اليراع لقوم يفخرون به ... وبالطوال الردينيات فافتخر
فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت ... مجدا أتت بمداد من دم هدر
فناسب بين الأقلام والكتابة والمداد.
ومثله قول أبي العشائر:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط
لرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط