وأما ائتلاف اللفظ مع اللفظ فيحد بما ذكره العلامة السيوطي في الإتقان، وهو كون الألفاظ تلائم بعضها بعضا، بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله، رعاية لحسن الجوار والمناسبة، وهذه المناسبة غير المناسبة التي في مراعاة النظير - كما هو ظاهر - فاستقل كل نوع من هذه الأنواع برأسه، وكان كل منها مغايرا للآخر.
وتكلف الشيخ صفي الدين للفرق بين مراعاة النظير وائتلاف اللفظ مع اللفظ بما يأتي ذكره هناك، ولم يذكر بين النوعين الآخرين وبين مراعاة النظير فرقا، مع شمول حده مراعاة النظير لهما، وعده كلا منهما قسما برأسه.
ومن بديع أمثلة هذا النوع - أعني مراعاة النظير - قول البحتري يصف إبلا أنحلها السري:
يترقرقن كالسراب وقد خض ... ن غمارا من السراب الجاري
كالسقي المعطفات بل الأس ... هم مبرية بل الأوتار
فإنه شبه الإبل بالقسي، وأراد أن يكرر التشبيه فكان يمكنه أن يشبهها بالمعراجين والأهلة والأطناب ونحو ذلك، لكنه اختار الأسهم، والأوتار، لمناسبتها للقسي. وترقى في التشبيه، فكأنه قال: إن تلك الإبل المهازيل في شكلها، ودقة أعضائها، شابهت القسي، بل أدق مها وهي الأسهم المنحوتة بل أدق منها وهي الأوتار.
وقد تداول الشعراء هذا المعنى، وتجاذبوا أطرافه، ومن ذلك قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
هن القسي من النحول فإن سما ... طلب فهن من النجاء الأسهم
أخذه بان قلاقس بأكثر ألفاظه فقال:
خوص كأمثال القسي نواحلا ... فإذا سما طلب فهن سهام
وقال أيضاً:
طرحن العجز عن أعجاز عيس ... توشحها على الحزم الحزاما
وتدفع بالسرى منها قسيا ... فتقذف بلانوى منها سهاما
وقال ابن النبيه:
إن خوص الظلماء أطيب عندي ... بمطايا أمست تشكى كلاله
هن مثل القسي شكلا ولكن ... هن في السبق أسهم لا محاله
ومن أحسن ما ورد من مراعاة النظير أيضاً قول ابن خفاجة يصف فرسا:
وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس
من جلنار ناضر جلده ... وأذنه من ورق الآس
فناسب بين الجلنار والآس والنضارة ومثله قول أبي نواس:
يا قمرا أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدمع من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
وقول ابن المعتز:
ومهفهف ألحاظه وعذاره ... يتعاضدان على قتال الناس
سفك الدماء بصارم من نرجس ... كانت حمائل غمده من آس
وقول أبي الحسن السلامي:
أو ما ترى طرز البروق توسطت ... أفقا كأن المزن فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرج ... خجل ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرس والرياض سطوره ... والزهر شكل بينها وحروف
فناسب بين الطرس والسطور، والشكل والحروف.
ومثل قوله أيضاً من قصيدة أخرى:
أشربا واسقيا فتى يصحب الأي ... أم نفسا كثيرة الأوطار
والنفوس الكبار تأنف للسا ... دة أن يشربوا بغير الكبار
في جوار الصبا نحل بيوتا ... عمرت بالغصون والأقمار
ونصلي على أذان الطنابي ... ر ونصغي لنغمة الأوتار
بين قوم إمامهم ساجد لل ... كاس أوراكع على المزمار
فناسب بين الصلاة والآذان، والسجود والركوع.
وقوله أيضاً:
والنقع ثوب بالسيوف مطرز ... والأرض فرش بالجياد مخمل
وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمر تنقط بالدماء وتشكل
فناسب بين الثوب والتطريز، والفرش والتخميل، وبين السطور والألفات والنقط والشكل.
ومثل هذه المناسبة قول الوزير الطغرائي:
لبس شفوف النقع تخمل بالقنا ... عليهن إضريج من الدم مخضوب
عليها سطور الضرب يعجمها القنا ... صحائف يغشاها من النقع تثريب
فناسب في البيت الأول: بين اللبس والشفوف والخمل، والإضريج - بالضاد المعجمة والراء المهملة والياء المثناة من تحت والجيم - وهو الخز الأحمر. وفي الثاني: بين السطور والإعجام، والصحائف والتثريب.
ومن جيد هذا النوع قول السلامي أيضاً:
الحب كالدهر يعطينا ويرتجع ... لا اليأس يصرفنا عنه ولا الطمع
صحبته والصبا يغري الصبابة بي ... والوصل طفل غرير والهوى يفع