للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سألت أبا نواس أن يجعل شربه عندي أياما متتابعة ضنانة ومنافسة على ما كان يفوتني منه. فأجابني إلى ذلك فأعددت له ما احتجت إليه من سماع وغيره وبدأنا في الشّرب. فلما كان آخر النهار جعل يشكو وجده بجارية قد فتنته ويصف أنه ما يهنؤه لذة ولا يسوغ له شراب ولا يصفو له عيش بسببها، فقلت: ويحك قد انتكست وصرت تتعشق النساء أيضا؟ قال: هو والله ما قلته لك، فقلت: سمها لي وعرفني خبرها لأعاونك عليها وأحتال لك فيها، فاستحيا مني وطوى خبرها عني وجعل يقول: لست تعرفها ولا أعرف أنا أيضا اسمها، فقلت: فصف لي خلقها فأبى. ثم أنشد يقول:

كفاك ما مر على رأسي ... من شاذن قطع أنفاسي

أكثر ما أبلغ من وصفها ... تحدُّثي عن قلبها القاسي

أغار أن أنعت منها الذي ... ينعته الناس من الناس

ولم أر العشاق قبلي رأوا ... بوصف من يهوون من باس

كل أحاديثي سوى نعتها ... منكشف مني لجلاسي

لا حبذا الشركة في حبها ... وحبذا الشركة في الكاس

قال: فلما رأيته لا يحب أن يعلمني خبرها، ويكشف لي خبرها تغافلت عنه فلما كان الليل وثملنا، نمنا ونام من كان بقي عندنا. أغفيت غفوة ثم انتبهت فإذا هو قاعد وحده فقلت: أبا علي مالي أراك ساهرا متململا لعلك فكرت فيما كنت شكوته؟ قال: إي والله ثم قال لي: اسمع أبياتا قلتها: قلت: هات. فأنشد:

رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكا عليك طويل

يا ناظرا ما أقلعت نظراته ... حتى تشحط بينهن قتيل

أحللت من قلبي هواك محلة ... ما حلها المشروب والمأكول

بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحير التشبيه والتمثيل

فوق القصير، والطويلة فوقها ... دون السمينة، دونها المهزول

قلت: قد ذكرت الآن قدها وأحسبني عرفتها. قال: هيهات، هيهات - يؤسيني بذلك من أن أعرفها - وقد كنت أراه يحد النظر إلى جارية لبعض أهلنا يقال لها نرجس ويتأملها وكانت تأتينا بالتحف في كل وقت من عند مولاتها، فقلت في نفسي: ما عنى غيرها ثم أمسكت عنه فلما كان في غد قلت للساقي: خذ على أبي نواس ففعل. فسكر سكرا ما رأيته سكر مثله فبينما هو في سكره إذ قال:

أحرف أربع سبين فؤادي ... لم أذق بعدهن طعم الرقاد

خفت إظهارهن خشة واشٍ ... واتقاء العدو والحساد

أشتهي النون من ((نوار)) وأهوى ... ثانيا من حروف إسم ((مراد))

و ((جنان)) قد شفني مبتداها ... و ((سعاد)) فديت مباد سعاد

لا تراني أحب خلقا سواها ... أبدا ما بقيت حتى التنادي

قال: فاستيقنت أن نرجس حاجته فوجهت إلى مولاتها أسألها أن تبينيها فوهبتها لي. فلما أفاق أبو نواس اصطحبنا فقلت له بعد أن شربنا أرطالا: نحب أن نشرب اليوم مع حبيبتك. قال: خذ فيما يكون. قلت: يا غلام أحضر ذلك الرجل. فدخلت نرجس. فلما رآها بهت إليها. فقلت له: قد وهبتها لك، قال: وتملكها حتى تهبها؟ قلت: نعم.

فعلت البارحة كذا وكذا فاستيقنت أنها طلبتك فأردت شرائها لك فوهبتها لي مولاتها وهي لك. فو الله لقد رأيت وجهه أشرق وأنار، وقام فقبل رأسي ثم أقعدها إلى جانبه وجعل كلما شرب كأسا قبلها ثم أنشأ يقول:

مالي في الناس كلهم مثل ... مأتى خمري ونقلي القبل

قومي حتى إذا العيون هدت ... وحان نومي فعرسي ثعل

يا أيها الناس فاسمعوا عظتي ... فكل نفس وراءها أجل

ليحمد الله منكمو رجل ... ساعده في حبيبه الأمل

فلما أمسى قال: قد جدت بالمنى، والتمام الإذن في الانصراف. قلت: معافى ومصحوبا مكلوءا.

١٥-أبو هفان قال: حدثت أن صديقا لأبي نواس مات وكان يأنس به فوجد عليه وجدا شديدا واشتد غمه وقلقه وجزعه لفقده وشيع جنازته، فلما صلوا عليه وصيروه في حفرته وواروه في لحده خرج أبو نواس من قبره - وكان فيمن ألحده - فاستقبل الناس الذين شيعوا الجنازة بوجهه وقال بصوت شج وإجهاش:

يا بني النقص والعبر ... وبني الضعف والخور

وبني البعد في الطبا ... ع على القرب في الصور

والشخوص التي تبا ... ين في الطول والقصر

احتساء من الحرا ... م وحتما على لاضرر

أين من كان قبلكم ... من ذوي البأس والخطر

<<  <   >  >>