سائلوا عنهم المدا ... ئن واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحي ... ل وإنا لفي الأثر
من مضى عبرة لنا ... وغدا نحن معتبر
إن للموت لمحة ... تسبق اللمح بالبصر
وكأني بكم غدا ... في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصو ... ر إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القبا ... ب عليكم ولا الحجر
حيث لا تظهرون من ... ها للهو ولا سمر
رحم الله مسلما ... ذكر الموت فادّكر
رحم الله مسلما ... خاف فاستشعر الحذر
١٦- أبو هفان فال: حدثنا أن جارية للقاسم بن هارون بارعة جميلة مرت بأبي نواس في كفها نرجس فجمشها أبو نواس وقال: ما أقبح الهجر بك. قالت: أقبح من هجري إفلاسك فأنشأ يقول:
قلت وقد مرت بنا ظبية ... رعبوبة في كفها نرجس
ما أقبح الهجر فجودي لنا ... منك بما تحيا به الأنفس
فاستضحكت عجبا وقال لنا: ... أقبح منه عاشق مفلس
١٧- حدثنا أبو هفان قال: حدثني يوسف بن الداية قال: كنت عند أبي نواس فقال لي: اسمع أبياتا حضرت، وأنشد:
وملحة بالعذ تحسب أنني ... بالجهل أوثر صحبه الشطار
بكرت علي تلومني ... وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إيثارى اللذاذة والهوى ... وتعجلي من طيب هذي الدار
أحري وأحزم من تنظر آجل ... علمي به رجم من الأخبار
ما جاءني أحد يخبر أنه ... في جنة مذ مات أو في نار
ومعقرب الصدغين يهتك لحظه ... عن كل مستور من الأستار
أحوى أغن مبتل ذي رونق ... حسن التنعم من بني بكار
ما زلت أسقيه وأشرب قرقفا ... ما افتضها بالماء غير نزار
كانت ... وآدم طينة معجونة
في دنها شمطاء ذات خمار
حتى إذا ذهب الزمان بدائها ... وتخلصت روحا من المسطار
عادت إلى لون كأن بكأسها ... منها جميع طوالع الأنوار
فلما بلغ قوله: ((في جنة مذ مات أو في نار)) قلت له: يا هذا إن لك أعداء ينتظرون منك السقطات فينتهزونها ليجدوا السبيل بها إلى الطعن عليك والقدح فيك إلى السلطان فاتقّ الله في نفسك ودع الإفراط والمجون فغنه مؤديك إلى خسارة الدنيا والآخرة إلا أن يقبل الله بك إلى الطريقة المثلى فإن كنت لم تظهر هذه الأبيات فتناسها واطوها. فقال لي: والله لا أكتمها خوفا. وإن قضي شيء كان. وقد كان سمعها غيري فأخبر بها الفضل بن الربيع وتأدى الخبر إلى الرشيد فما مضى إلا أسبوع حتى حبسه.
١٨- أبو هفان قال: حدثني بعض آل نيبخت أن آخر شعر قاله أبو نواس، أنا أتيناه بطبيب بجسه وينظر في علته فوصف لنا شيئا ثم غمز أخي فخرج معه فقال: لا تداووه فإنه لا يسلم من علته ولكن عللوه ومنوه البرء والسلامة. فأحس وأيقن، فلما عاد أخي إليه قال: بحياتي ما خبرك الطبيب؟ قال: لم يقل إلا خيرا، أمر أن تسقى من الدواء كذا وكذا وأخبر أن العلة قد نضجت وانحطت، فانشأ أبو نواس من فوره يقول:
سألتك بالمروءة والجوار ... وقرب الدار من بعد المزار
بما ناجاك إذ ولى سعيد ... فقد أوجست من هذا السرار
فقلت: خيرا، فقال هو والله الموت.
١٩-أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كنت عند أبي نواس يوما نتحدث إذ جاء غلام قد التحى فلما طلع من الباب قال لي أبو نواس: قم وأقعد على الباب ساعة حتى أناظر هذا في شيء، فقلت: ويحك هذا صاحب لحية، فقال لي: قم يا فضولي. فدرت دورة ثم رجعت إليه، فقال لي: تدري من هذا؟ قلت: لا والله غير أني أراه صاحب لحية قال: هذا غلام كنت أتعشقه قديما وكان معي فلما التحى صار من السراجين فربما جاءني في الأحايين فآخذه على طيبه الأول وقد كاد يمتنع على الساعة ولكن كانت لي الغلبة. ثم قام فاغتسل ورجع إلى موضعه ثم أنشأ يقول:
رأى بخديه نابتا زغبا ... فضن عني هناك بالقبل
وقال قد صرت يا فتى رجلا ... وذا قبيح أراه بالرجل
فقلت يا من زها بلحيته ... الآن والله طبت للعمل
ذا زعفران والمسك تربته ... يخرج من تحت صدغك الرجل
تراك لو قد خضبت من كبر ... وسحر هينيك فيك لم يحي
صبرت عن عض وجنتيك وعن ... مص رضاب بفيك كالعسل