١- (أبو هفان قال) : دخل أبو نوّاس على يحيى بن خالد فقال له يحيى أنشدني بعض ما قلت، فأنشده:
إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في عامي حكاية من حكى
أتتبع الظرفاء أكتب عنهمو ... كيما أحدث من أحب فيضحكا
فقال يحيى إن زندك ليرى بأول قدحة فقال أبو نواس في معنى قول يحيى ارتجالا:
أما وزند أبي عليٍ إنّه ... زند إذا استوريت سهّل قدحكا
إن الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدك للسماح ومزحكا
تأبى الصنائع همتي وقريحتي ... من أهلها وتعاف إلا مدحكا
٢- أبو هفان: وأخبرني أبو يوسف ابن الداية قال: كان أبان اللاحقي يحسد أبا نواس وكان انقطاعه إلى جعفر بن يحيى، فعرض جعفر على أبي نواس كلبة له وقال له: انعتها باسمها أولا، فقال: قد سميتها أم أبان. فغضب جعفر وقال: تعبث بنديمي وشاعري!! فهجاه أبو نواس بقوله:
أرى جعفرا يزداد لؤما ودقة ... إذا زاده الرحمن في سعة الرزق
وأعظم زهوا من ذباب كناسة ... وأبخل من كلب عقور على عرق
فلما قدم الفضل من خراسان سأله جعفر أن يجعل أبانا على عطاء الشعراء وتميز ما يهنأ به من الشعر ففعل، وأعطاهم على مراتبهم وطبقاتهم، فلما جاء أبو نواس لقبض جائزته أعطاه درهمين، فرفع أبو نواس يده فصفع أبانا وقال: سارق غلة أمه، قد بلغني أن أمك كسبت عشرة دراهم فخنتها، فضحك الفضل وقال لجعفر: مر أبانا ليصالحه.
٣- أبو هفان قال: حدثني عبدوس الوراق أن أبا نواس احتاج حاجة شديدة، وتاقت نفسه إلى الخمر فلم تمتد يده إلى ما يشتريه، فذكر أخا له شاعرا في بعض القرى التي تقرب من بغداد، فخرج قاصدا له، فلما ورد عليه وجده أسوأ حالا منه، وأظهر له عيلة، ووجد عنده شرابا وليس عنده ما ينتقل به عليه، فاعتذر إلى ابي نواس وكشف له حاله، فقال له أبو نواس: إنها تشرب على الريق وأنشأ:
اشرب على الخيري والريق ... إنا على بعد من السوق
لا تطلبن الخبز في دارنا ... فإنما ننفخ في البوق
ثم قال له أبو نواس: أما هاهنا من يمدح؟ قال: بلى، رجل من مضر إذا مدحته مدحني وإذا هجوته هجاني مثلا بمثل. فنظر في شعر المضري فإذا هو شعر متظرف متكلف فتناول القرطاس وكتب له:
قل لأبي مالك فتى مضر ... مقال لا مفحم ولا حصر
جئناك في ميت نكفنه ... ليس من الجن لا ولا البشر
بل هو ميت سلاحه خزف ... والجسم فان والروح من عكر
ليس لنا ما به نكفنه ... فكفن الميت يا أخا مضر
يا لك ميتا صلاة شيعته ... عليه عزف والنقر بالوتر
فلما قرأ المضري الشعر أقبل بحشمه وغلمانه نحوهم، فأقام عندهم يومه ينادمهم بعد أن حمل إليهم ما يقيمهم، وأمر لكل منهما بخمسة آلاف درهم.
٤- أبو هفان قال: حدثني سليمان بن نيبخت قال: مر أبو نواس في غداة يوم من أيام الربيع وقد طشت السماء ساعة، فلما طلع علي من الباب أنشأ:
ما مثل هذا اليوم في طيبه ... عطل من لهو ولا ضيعا
فما ترى فيه رماذا الذي ... تريد هذا اليوم أن تصنعا
هل لك أن نغدو على قهوة ... تسرع في المرء إذا أسرعا
ما وجد الناس ولا جربوا ... للهم شيئا مثلها مدفعا
قال: فقلت له: ما كان يساعدني على هذا اليوم غيرك. أقم فإن عندي ما يقيمك أياما عندي، فلما كان وقت العشاء وقد أخذته الخمرة فلم تدع فيه حركة إلا أزالتها عن جهتها أنشأ يقول:
باح لساني بمضمر السر ... وذاك أني أقول بالدهر
وليس بعد الممات فادحة ... وإنما الموت بيضة العقر.
قم قال لي: اكتم علي فالمجالس بالأمانة.
٥- أبو هفان قال: وخبرت أنّ أبا نواس مر على جارية بباب قصر واقفة مع صاحبة لها فتأوه أبو نواس. فقالت الجارية لصاحبتها: أظن الفتى ذا شجن. فأنشأ أبو نواس يقول:
منحت طرفي الأرض خوفا لأن ... أجعل طرفي عرضة للمحن
إذ كنت لا أنظر من حيث ما ... أنظر إلا نحو وجه حسن
يزرع في قلبي الهوى ثم لا ... يحصل في كفي غير الحزن
أفدي التي قال لأخت لها: ... إني أرى هذا الفتى ذا شجن
قلت: نعم ذو شجن عاشق ... قالت: لمن؟ قلت: لمن قال من
قال عساه لك إنا كما ... أنت له، قلت: اتفقنا إذن