للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كلفت بما أبصرت من حسن وجهها ... زمانا، وما حب الكواعب من أمري

فما زلت بالأشعار في كل موقف ... أراوغها، والشعر من عقد السحر

إلى أن أجابت للوصال وأقبل ... على غير ميعاد إلي من العصر

فقلت لها أهلا ودارت كؤوسنا ... بمشمولة كالورس أو شعل الجمر

فقالت عساها الخمر إني بريئة ... إلى الله من حب الرجال مع الخمر

فقلت لها إن كان هذا محرما ... ففي عنقي يا ريم وزرك مع وزري

وطالبتها شيئا فقالت بعبرة: ... أموت إذن منه، ودمعتها تجري

فما زلت في رفق ونفسي تقول لي: ... جويرية بكر. كذا جزع البكر

فلما تفاوضنا توسطت لجّة ... غرقت بها يا قوم من لجج البحر

فلولا صياحي بالغلام وأنه ... توهقني بالحبل غصت إلى القعر

فآليت ألا أركب البحر غازيا ... حياتي ولا سافرت إلا على الظهر

١٠- أبو هفان: قال الخصيب بن عبد الحميد الدهقاني - وكان من أهل المداراة لأبي نواس وهو بمصر -: بلغني أنك لا تحسن أن تخطب - وكان أهل مصر قد شغبوا عليه - فاستشاط من ذلك وقال: والله لا خطبت إلا بشعر بديهة، ثم خرج من فوره ذلك يسحب أذياله حتى صعد المنبر فقال:

محضتكموا يا أهل مصر نصيحة ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب

ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا ... على خطة حدباء غير ركوب

رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب

فإن يك باقي إفك فرعون فيكمو ... فإن عصا موسى بكف خصيب

١١- قال أبو هفان: حدثني ابن الداية أن جمالا الكوفي كان غلاما جميل الوجه جيد الشعر وكان ينزل الكرخ. وقد كان وصف خمسين غلاما وصنفهم على طبقاتهم في شعره وكان على حداثة سنه يتشطر ويطلب الغلمان بماله وشعره. وكان موسرا ذا ثروة. وكان أبو نواس إذا أنشد شعر جمال استجاده واستحلاه. فبينا أبو نواس في صف الوراقين إذ بصر بغلام حسن الوجه بارع الجمال فوثب مبادرا نحوه فتعلق به القوم وقالوا: مهلا فإن هذا جمال الذي سمعت به، فقال: قاتله الله فما رأيت جمالا أظهر منه فمن يوصل إليه أبياتا حضرت؟ فقال بعضهم: أنا، فقال: فعجل في إيصالها وانظر ما يقول في جوابها، ثم كتب إليه:

يا واصف الخمسين لو تعدل ... لكان منهم اسمك الأول

وصفت خمسين وميزتهم ... وأنت انت الظبية المغزل

جمال، دعهم عنك ولا تطرهم ... أنت وربي منهمو أجمل

لا يبرح اللوطي من شهوة ... لحسن ردف كالنقا ينزل

فلما قرأ جمال الأبيات قال: ويلي عليه ابن الزانية الشارب الخمر - وكان جمال لا يشربها - قال له: والله لا هجوتك ولكنني أقتلك بخنجري هذا وهزه في يده فرجع الرسول إلى أبي نواس بمقالته فضحك ثم كتب إليه:

يا من عدا بالقتل ظلما لقد ... حالفت ذا الخنجر كفيكا

ما خنجر يقتلني سيدي ... أقتل من تقتير عينيكا

يا من دعا قلبي إلى حبه ... فقلت لبيك وسعديكا

هب لي ولا تبخل أيا سيدي ... سويعة ما بين فخذيكا

قال يوسف فما كان إلا بعد قليل حتى واصله وحادثه ودعاه إلى مجلسه وسكر معه.

١٢- أبو هفان: كان أبو نواس هجا ابن نيبخت وذكر أمه ورماه بالبخل ونسبه إلى الرفض أيام هارون الرشيد فلم يزل به إلى ان دس له شربة من سم فلم تعمل عملها إلا بعد أربعة أشهر، فلما اشتد وجعه وتمعطت لحيته وتغيرت حاله، دخل إليه غلام - لم يعده - لحبه إياه وكان يتعهده ويكتب أشعاره فقال له: يا أبا نواس كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما قدمت، ويا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ثم أنشد:

دب في البلاء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا

ليس تمضي من ساعة بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا

لهف نفسي على ليالوأيا ... متمليتهن لعبا ولهوا

ذهبت جدتي بلذة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا

قد أسأنا كل الإساءة فالل ... هم صفحا عنا وغفرا وعفوا

قال: فلما فرغ من هذه الأبيات مات لساعته فخرج الغلام باكيا وهو يعول مجهشا:

مات البديع وماتت دولة الفطن ... واستدرج الموت روح الشعر في كفن

لله ما صنعت أيدي المنون به ... وما تضمنت الأكفان من حسن

<<  <   >  >>