رواية التِّرْمِذي حيث قال: حدَّثنا محمود بن غيلان قال: حدَّثنا أبو داود قال: أنبأنا شُعْبَة عن مهاجر أبي الحسن عن زيد بن وَهْب عن أبي ذرٍّ: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ كانَ في سفرٍ ومعَه بلالٌ فأرادَ أنْ يقيمَ فقالَ: أبردْ، ثمَّ أرادَ أنْ يقيمَ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم: أبردْ في الظُّهرِ، قال: حتَّى رأينا فيء التُّلُولِ، ثمَّ أقامَ فصلَّى فقالَ رسول ُاللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ: إنَّ شدَّة الحرِّ منْ فيحِ جهنَّم فأبردُوا عنِ الصَّلاة)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قلت: في «صحيح أبي عوانة» من طريق حَفْص بن عُمَر عن شُعْبَة: ((فأرادَ بلالٌ أنْ يؤذِّنَ بالظهرِ)) وفيه بعد قوله: فيء التُّلُول ((ثمَّ أمرَه فأذَّنَ وأقامَ)) فيجمع بينهما بأن إقامته ما كانت تتخلف عن الأذان، فرواية التِّرْمِذي:((فأرادَ أنْ يقيمَ)) يعني بعد الأذان، ورواية أبي عَوانَة:((فأرادَ بلالٌ أنْ يؤذِّنَ)) يعني أن يؤذِّن ثمَّ يقيم.
قوله:(حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُوْلِ) قال شيخنا: هذه الغاية متعلِّقة بقوله: (فَقاَلَ لَهُ: أَبْرِدْ) أي كان يقول له في الزَّمان الذي قبل الرؤية أبرد، أو متعلِّقة بأبرد، أي قال له: أبرد إلى أن ترى أو متعلِّقة بمقدار، أي قال له: أبرد إلى أن رأينا.
والفيء: -بفتح الفاء وسكون الياء بعدها همزة- وهو ما بعد الزَّوال من الظلِّ، والتُّلُول: جمع تلٍّ -بفتح المُثَنَّاة وتشديد اللام-كلُّ ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في الغالب مسطحة غير شاخصة، فلا يظهر لها ظلٌّ إلَّا إذا ذهب أكثر وقت الظُّهر.
وقد اختلف العلماء في غاية الإبراد، فقيل: حتَّى يصير الظلُّ ذراعًا بعد ظلِّ الزوال، وقيل: ربع قامة، وقيل: ثلثها، وقيل: نصفها، وقيل غير ذلك، ونزَّلها المَاوَرْدي على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد إنَّه يختلف باختلاف الأحوال بشرط ألَّا يمتدَّ إلى آخر الوقت، وأمَّا ما وَقَعَ عند المصنِّف في الأذان عن مسلم بن إبراهيم عن شُعْبَة بلفظ:((حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُوْلَ)) فظاهره يقتضي إنَّه أخَّرها إلى أن صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، ويحتمل أن يُراد بهذه المساواة ظهور الظلِّ بجنب التَّلِّ بعد أن لم يكن ظاهرًا فساواه في الظهور لا في المقدار، أو يقال: قد كان ذلك في السَّفر، فلعله أخَّر الظهر حتَّى يجمعها مع العصر. انتهى.
قال العَيني: وقال التِّرْمِذي في «جامعه» : وقد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظُّهر في شدَّة الحرِّ، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: إنَّما الإبراد بصلاة الظُّهر إذا كان مسجدًا ينتاب أهله من البعد، فأمَّا المصلِّي وحدَه والذي يصلِّي في مسجد قومه فالذي أحبُّ له ألَّا يؤخِّر الصَّلاة في شدَّة الحرِّ. قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظُّهر في شدَّة الحرَّ هو أولى وأشبه بالاتباع، وأمَّا ما ذهب إليه الشَّافعي أنَّ الرخصة لمن انتاب من البعد والمشقَّة على النَّاس؛ فإنَّ في حديث أبي ذرٍّ ما يدلُّ على خلاف ما قال الشافعي: قال أبو ذرٍّ: ((كنَّا معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ في سفرِ، فأذَّنَ بلال بصلاةِ الظُّهر فقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم: يا بلال أبردْ)) فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشَّافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى؛ لاجتماعهم في السَّفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا