نفاراً وإباء، فمشى الوزير وذلك القائد إلى القاضي وقال: إني تزوجت فلانة بنت فلان على هذا الصداق، وهؤلاء شهدوا عليه، ثم قد ناكرني وأنكر الشهود، وقد أردت أن أدفع له حق ابنته وآخذها.
فأمر القاضي بإحضار الشهود فشهدوا عنده وأحضر مال النقد بين يدي القاضي، والرجل على إنكاره متماد، فأمر القاضي بإمضاء الحكم عليه، وأن تؤخذ ابنته منه أحب أو كره، وأمر بحمل المال إليه، فلما وصلت الجارية عند الوزير، لم يزل أبوها يروم الوصل إلى المعتصم. وكان المعتصم غليظ الحجاب لا يصل إليه أحد من غير الخاصة، فقيل للرجل أنه يحضر كل يوم ساعة من النهار على بنيانٍ له بقصره، فإن استطعت أن تكون مع جملة رجال الخدمة تصل إليه وتكلمه بما أردت.
ففعل الرجل ذلك وغير شكله، ودخل في جملة رجال الخدمة للبناء، فلما كان ذلك الوقت الذي كانت عادة أمير المؤمنين المعتصم يقف فيه على ذلك البناء خرج ذلك الرجل فترامى إلى الأرض وجعل يحثو التراب على رأسه ويستغيث، فسأله عن شأنه فقص عليه القصة، فأرسل المعتصم في ذلك المقام، خلف ذلك القائد وأغلظ عليه في القول، فحملته هيبته له، وقلة إقدامه على الكذب عليه، أن وصف له الصورة على ما كانت عليه، وهو يطمع أن يعذره في ذلك، إذ قد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، وأمر بإحضار الشهود فصنعوا مثل صنيع صاحبهم وذلك كله رهبة له وإجلالاً أن يخاطبوه بكذب مع تخيلهم أنه يصفح لهم عن هذه الزلة إذ قد أرادوا إحياء نفس ذلك الوزير، وأيضاً قد دفع له بين يدي القاضي نقداً لا يكون إلا في صدقات الملوك، وقد جعل لها من الصداق ما هو فوق قيمة قدرها، فكأنه قد أخذها بحقها أو بأكثر من حقها.
فلما تحققت عنده جلية الخبر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يوضع ذلك الوزير في جلد ثور طري السلخ، ويضرب بالمرازب حتى يختلط عظمه ولحمه ودمه، ثم أمر به، لما صنع به ذلك، أن يفرغ بين يدي نمور كانت عنده، فلما لعقت تلك النمور ذلك الدم أمر الرجل أبا البنت أن يأخذ ابنته ويأخذ كل ما ذكروا لها على ذلك الوزير في صداقها من عقار ودور ومال.
ثم مات المعتصم وولي ابنه المقتدر وكان صبياً صغير السن، فعادت الأتراك إلى ما كانت عليه من ذلك، والله تعالى أعلم.