في هذه الفقرة الشيخ أشار إلى شيء من الأمور المتعلقة بالافتراق والابتداع، وأحوال السنة وأهل البدعة، وفي هذا عدة وقفات ينبغي أن نتأملها قليلاً: الوقفة الأولى: عند قوله: (واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي)) هذا الحديث معلوم ومستفيض، والحديث صحيح بمجموع طرقه وشهدت له أحاديث صحيحة أيضاً بألفاظ أخرى، ومن هنا ينبغي أن ننبه إلى خطأ بعض الذين يتناولون هذه القضية وهم يجهلون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثل كثير من العصرانيين والعقلانيين، وبعض الدعاة الذين يقل فقههم في الدين، فيزعمون أن حديث الافتراق لا يثبت، هؤلاء خلطوا بين أمرين: خلطوا بين حديث الافتراق الذي فيه ذكر الثلاث والسبعين، وبين حديث الإخبار عن الافتراق، فجعلوهما سواء فزعموا أن الإخبار عن الافتراق لا يصح، مع أن هذه مكابرة للواقع فضلاً عن أنها أيضاً مخالفة صريحة للشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الافتراق في أحاديث كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع) وليس المقصود سننهم على الهدى، المقصود سننهم على الضلال.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لتأخذن أمتي مأخذ القرون)، أي الأمم السالفة التي مضت، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة المتواترة التي تثبت أن الافتراق واقع وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به، وخبره الصدق والحق.
أما حديث الافتراق الذي فيه ذكر الثلاث والسبعين فرقة فهو أيضاً مستفيض ومشهور، والواقع يشهد له؛ فإن الأمة افترقت إلى هذا العدد، وربما تفرّع عن هذا العدد أعداد أخرى، ولذلك فإن أهل العلم حين ذكروا حديث الافتراق وقالوا إن الافتراق يزيد على ثلاثة وسبعين، قالوا: إن المقصود به الافتراق الذي يكون في أصول، ويكون له رءوس، وتكون له جماعات ذات شعارات وذات مناهج فإنه هذا الوصف هو الذي به توصف الجماعة بأنها مفارقة، أما الحالات الفردية، والنزعات التي تزول فهذه لم يبق لها أثر.
وعندما نتأمل تاريخ الأمة نجد أنها افترقت إلى مثل هذا العدد أو إلى قريب منه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا أشار إلى أمرين لا بد أن نعيهما جيداً لئلا نقع فيما وقع فيه بعض الناس من الإفراط والتفريط، فبعض الناس أخذ بمبدأ الإفراط فصار عنده شيء من اليأس، أو صار عنده شيء من عدم الوضوح وظن أن الحق ضاع، وأن الحق لا يتميز، كما قال عبد الرحمن بدوي وأمثاله يقول: كل يدّعي الحق حتى المعتزلة يقولون: نحن الجماعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث! فالشاهد أن هناك أناساً ما استطاعوا أن يجمعوا بين هذا الحديث وأحاديث أخرى تُثبت أنه مع وجود هذا الافتراق لا بد أن توجد فرقة ناجية، وأن هذه الفرقة هي الجماعة، وأن هذه الجماعة موصوفة بأنها على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأنها أيضاً ضُمن لها البقاء والظهور:(لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة).
فهذا وعد يبعث الأمل عند المسلم ويجعله يجزم بأن الحق محفوظ والدين ظاهر كما وعد الله، ولا بد أن يكون له من يمثله وهم القدوات من أهل العلم وأتباعهم.
ثم أشار الشيخ إلى الخلاف بعد خلافة عمر، وهو من الابتلاء الذي كتبه الله عز وجل على الأمة، وأمر مضى وانقضى، لا بد أن يكون مما قدره الله عز وجل وما قدّره الله ليس لنا فيه يد إلا أن نعرف أن ذلك كله ابتلاء للأمة واختبار لمن يسلم ومن يهلك، وأن الابتداع ازداد ما بين وقت وآخر لا شك، وأن التغيير بدأ في الفتنة على عثمان رضي الله عنه، وهذه المسألة فيها دروس عظيمة لا يتسع لها الوقت وربما تأتي في مناسبات قادمة.