للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن لوازم التصور الصحيح للوقائع أن يستفصل المفتي من المستفتي في مسألته إذا كانت المسألة فيها تفصيلٌ وتختلف فيها الأحكام من صورةٍ إلى أخرى (١).

وقد " استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً (٢) لما أقرَّ بالزنا، هل وُجِدَ منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنونٌ فيكون إقراره غير مُعْتَبَرٍ أم هو عاقل؟ فلما عَلِمَ عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه (٣) ليُعْلَم هل هو سكرانٌ أو صاحٍ؟ فلما عَلِمَ أنه صاحٍ استفصله: هل أُحْصِنَ أم لا؟ فلما عَلِمَ أنه قد أُحِصنَ أقام عليه الحدّ" (٤).

و" كذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف لا يفعل كذا وكذا ففعله، لم يجز للمفتي أن يفتي بحنثه حتى يستفصله: هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختاراً في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختاراً فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالِماً ذاكراً مختاراً أم كان ناسياً جاهلاً أو مُكْرَهاً؟ وإذا كان عالِماً مختاراً فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قَصَدَ عدمَ دخوله فخصَّصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله " (٥).

وإذا كانت الواقعة لها تعلُّقٌ بعلمٍ من العلوم غير الشرعيَّة لزم المجتهد الرجوع إلى أهل الاختصاص والخبرة في ذلك العلم؛ لتصوير الواقعة، ومعرفة حقيقتها، وأوصافها، وأثارها.

فالواقعة قد يكون لها تعلُّقٌ بعلم الطب أو الاقتصاد أو الفلك أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من العلوم الأخرى، فحينئذٍ يرجع المجتهد إلى أهل


(١) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (٤٥)، إعلام الموقعين (٦/ ٩١).
(٢) هو: ماعز بن مالك الأسلمي، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اعترف على نفسه بالزنا تائباً منيباً، وكان محصناً فرجم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (٤/ ٣٢٤)، الاستيعاب (٣/ ١٣٤٥).
(٣) الاستنكاه: طلب النكهة، وهي شم رائحة الفمّ.
ينظر: معجم مقاييس اللغة (٥/ ٤٧٤)، تاج العروس (٣٦/ ٥٣١)
(٤) إعلام الموقعين: (٦/ ٩١).
(٥) المرجع السابق: (٦/ ٩٢).

<<  <   >  >>