الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: في الدرس الماضي انتهينا من الكلام حول الطوائف التي اشتغلت بشهود الحقيقة الكونية عن الحقيقة الشرعية، وما ترتب على هذا الشهود عندهم من عقائد تتفاوت ما بين الغلو المطلق، وما بين الاشتغال بما لا يعني ولا يفيد وبينهما درجات متفاوتة، ثم أكملنا الحديث حول الحقيقة الشرعية للعبودية، وأنها مبنية على أصلين: على ألا يعبد إلا الله، وعلى ألا يعبده إلا بما شرع الله سبحانه وتعالى.
فيتحقق بهذا الإخلاص والتوحيد، ويتحقق به أيضاً متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: هو تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك قوادح تلحق بالعبودية، وهذه القوادح وهذا الخلل الذي يحصل في العبودية ليس على درجة واحدة، وإنما هو بشكل متنوع ومتفاوت، فمن القدح في العبودية ما يكون بعبادة غير الله عز وجل، ويكون شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، مثل: الذبح لغير الله، والاستغاثة بغير الله، ومثل: التوكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وهذه الأنواع من الشرك الأكبر يجمعها عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وفي كل نوع من هذه الأنواع ضوابط دقيقة ينبغي على طالب العلم أن يتعلمها، وربما تذكر عادة في شرح كتاب التوحيد؛ لأنه اعتنى بها تفصيلاً، واعتنى بما يلحقها من الشرك الأكبر والأصغر تفصيلاً، فمثلاً: دعاء غير الله سبحانه وتعالى إذا كان فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه يكون شركاً أكبر.
أما إذا كان فيما يقدر عليه المخلوق، فهذا يأتي في السؤال الذي تحدث عنه ابن تيمية في هذا الكتاب بالذات العبودية، وأن الأصل في سؤال الناس هو: التحريم، إلا أنه أبيح للحاجة، ولهذا يستحب أهل العلم أن لا يسأل الإنسان إلا لحاجة، وأنه ينبغي له أن يؤدي العمل بنفسه، وهكذا كان الصحابة، كان إذا سقط سوط أحدهم فإنه ينزل ويأخذه ولا يقول لأحد: ناولنيه، وهذا لا يعني أن سؤال الخلق فيما يقدرون عليه محرم، بل إذا كان فيما يقدر عليه الإنسان فهو ليس بمحرم، لكن من دقائق العبودية أن الإنسان لا يسأل في ما يقدر عليه الخلق، وإنما يعتمد فيه على الله عز وجل، ويبذل السبب الذي يكون أداؤه بنفسه.
فالضابط في دعاء غير الله، وفي الاستغاثة بغير الله هو: أن يكون فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: مغفرة الذنب، والرزق، ودخول الجنة، والعتق من النار، ونحو ذلك من أنواع الأعمال التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن سألها غير الله عز وجل، فقد وقع في الشرك الأكبر.
وكذلك الحال في الذبح له ضابط، فليس كل أنواع الذبح يكون شركاً أكبر، فالذبح إذا كان للضيف، أو زاره زائر وذبح له من أجل أن يأكل فهذا ليس فيه شيء، إذا كان الإنسان يذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة، لكن الذبح الذي يكون شركاً أكبر هو: الذبح الذي يفعله العبد للتعبد والتقرب لغير الله تعالى، فمثلاً لو أنه جاء إلى قبر ولي أو نبي، فذبح عنده بقصد التقرب لهذا النبي وهذا الولي، فقد وقع في الشرك الأكبر.
وهكذا الحال في سائر أنواع العبادات، لها ضوابط دقيقة تحدد النوع الذي يكون عبادة من هذا العمل، والنوع الذي لا يكون عبادة، فالذي يكون عبادة يجب أن يصرف لله عز وجل، والذي لا يكون من العبادات فإنه يجوز للإنسان أن يتعاون مع الخلق في ذلك، والأصل في ذلك قول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:٢].