وأعود بعد هذه الأسئلة التي تقدمت آنفا عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعلي - كرم الله وجهه - ما لم يكن له علم به: زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عينه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي». ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحا، وبعضهم يراه ضعيفا، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب، ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله له أن يتوجه نحو تبوك - أمر عليا بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون عل الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد علي في نفسه وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة!» فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - تطيبا لنفسه:«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» أي في استخلاف موسى أخاه هارون لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح فهذا استخلاف لم يكن له في نظر سيدنا علي كرم الله تعالى وجهه هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرمانا له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثوب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زد على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها، وقد ناظر كبار الشيعة في هذا الحديث علامة العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة ١١٥٦هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم كما ترى ذلك فيما دونه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).
فالإمام علي كرم الله تعالى وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى جماع إخوانه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قدر الله لها بحكمته ما شاء، وقضى فيها بعدله ما أراد وما كان لمسلم من عامة المسلمين - فضلا عن مثل علي في تعظيم مكانته في الأولين