فلم أر كاليوم قطّ، إنّ العلوج يجيئون كأنهم جبالُ الحديد، وقد تواثقوا أن لا يَفرّوا مِن العرب، وقد قُرِن بعضهم إلى بعض حتى كان سبعة في قران، وألقوا حَسَك (١) الحديد خلفهم، وقالوا: مَن فرَّ منّا عقَرَه حَسَكُ الحديد. فقال: المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدوّنا يتركون أن يتناموا، فلا يُعجلوا. أمَا والله لو أن الأمر إليَّ لقد أعجلتهم به.
قال: وكان النعمان رجلاً بكّاءَ، فقال: قد كان الله -جلّ وعزّ- يُشهِدك أمثالها فلا يحْزنك ولا يعيبك موقفك. وإني والله ما يمنعني أنْ أناجزهم إلاّ لشيء شهِدْته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا غزا فلم يُقاتِل أول النهار لم يَعَجَل حتى تحضر الصلوات وتهب الأرواح ويطيب القتال.
ثمّ قال النعمان: اللهم إني أسألك أن تُقرَّ عيني بفتْحٍ يكون فيه عزُّ الإسلام وأهله، وذلُّ الكفر وأهلِه. ثمّ اختِمْ لي على أثر ذلكَ بالشهادة. ثمّ قال: أمِّنوا رَحِمكم الله. فأمّنّا وبكى فبكينا. فقال النعمان: إنّي هازٌّ لوائي فتيسّروا للسلاح، ثمّ هازُّها الثانية، فكونُوا متيسَّرين لقتال عدوكم بإزائكم، فإذا هززتها الثالثة؛ فليحمِل كل قوم على مَن يليهم مِن عدوِّهم على بركة الله.
قال: فلمّا حَضَرت الصلاة وهبَّت الأرواح كبّر وكبَّرنا. وقال: ريح الفتح والله إن شاء الله، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا. فهزّ اللواء فتيسروا، ثم هزَّها الثانية، ثمّ هزَّها الثالثة، فحمَلْنا جميعاً كلّ قوم على مَن يليهم. وقال النعمان: إنْ أنا أُصِبت، فعلى النّاس حذيفة بن اليمان، فإنْ أُصِيب حذيفة؛ ففلان، فإنْ أُصِيب فلان ففلان حتى عدَّ سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة.
(١) الحَسَك: ما يُعمل على مثال شوكة، أداة للحرب من حديد أو قصَب، فيُلقى حول العسكر، "القاموس المحيط".