فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِهَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ عَلَى حَارِمَ وَمُلْكِ نُورِ الدِّينِ حَارِمَ، وَمَسِيرِهِ إِلَى بَانِيَاسَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ سَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَرَادُوا الْعَوْدَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ ; لِيَحْفَظُوهَا، فَرَاسَلُوا أَسَدَ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، وَمُفَارَقَةِ مِصْرَ، وَتَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ مِنْهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا فَعَلَهُ نُورُ الدِّينِ بِالشَّامِ بِالْفِرِنْجِ، وَلِأَنَّ الْأَقْوَاتَ وَالذَّخَائِرَ قَلَّتْ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بِلْبِيسَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
فَحَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَسَدَ الدِّينِ حِينَ خَرَجَ مِنْ بِلْبِيسَ، قَالَ: أَخْرَجَ أَصْحَابَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَقِيَ فِي آخِرِهِمْ وَبِيَدِهِ لِتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَحْمِي سَاقَتَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ وَالْفِرِنْجُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَتَاهُ فِرِنْجِيٌّ مِنَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ بِكَ هَؤُلَاءِ الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ، وَقَدْ أَحَاطُوا بِكَ وَبِأَصْحَابِكَ، وَلَا يَبْقَى لَكُمْ بَقِيَّةٌ؟ فَقَالَ شِيرِكُوهْ: يَا لَيْتَهُمْ فَعَلُوهُ حَتَّى كُنْتَ تَرَى مَا أَفْعَلُهُ، كُنْتُ وَاللَّهِ أَضَعُ السَّيْفَ، فَلَا يُقْتَلُ مِنَّا رَجُلٌ حَتَّى يَقْتُلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، وَحِينَئِذٍ يَقْصِدُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ، وَقَدْ ضَعُفُوا، وَفَنِيَ شُجْعَانُهُمْ، فَنَمْلِكُ بِلَادَهُمْ، وَيَهْلَكُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لَوْ أَطَاعَنِي هَؤُلَاءِ لَخَرَجْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَلَكِنَّهُمُ امْتَنَعُوا.
فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: كُنَّا نَعْجَبُ مِنْ فِرِنْجِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي صِفَتِكَ وَخَوْفِهِمْ مِنْكَ، وَالْآنَ فَقَدْ عَذَرْنَاهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَسَارَ شِيرِكُوهْ إِلَى الشَّامِ، فَوَصَلَ سَالِمًا، وَكَانَ الْفِرِنْجُ قَدْ وَضَعُوا لَهُ عَلَى مَضِيقٍ فِي الطَّرِيقِ رَصْدًا لِيَأْخُذُوهُ أَوْ يَنَالُوا مِنْهُ ظَفَرًا، فَعَلِمَ بِهِمْ فَعَادَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَفِيهِ يَقُولُ عُمَارَةُ [الْيَمَنِيُّ] :
أَخَذْتُمْ عَلَى الْإِفْرَنْجِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ ... وَقُلْتُمْ لِأَيْدِي الْخَيْلِ مُرِّي عَلَى مُرِّي
لَئِنْ نَصَبُوا فِي الْبَرِّ جِسْرًا فَإِنَّكُمْ ... عَبَرْتُمْ بِبَحْرٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى الْجِسْرِ
وَلَفْظَةُ مُرِّي فِي آخِرِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ اسْمُ مَلِكِ الْفِرِنْجِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute