مِنْ شُرُوحِ الشِّرْعَةِ أَنَّهُ اُتُّفِقَ «لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَوْبَانِ، وَهَبَ أَحَدَهُمَا لِفَقِيرٍ حَذَرًا مِنْ الْإِسْرَافِ أَوْ سُوءِ الْحِسَابِ» ، وَعَنْ الْحَرِيرِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعِ بَغْدَادَ رَجُلًا لَا يَلْبَسُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنِّي دَخَلْت الْجَنَّةَ فَرَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ فُقَرَائِنَا عَلَى مَائِدَةٍ، وَأَرَدْت أَنْ أَجْلِسَ مَعَهُمْ فَمَنَعَنِي الْمَلَائِكَةُ، وَقَالُوا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَك قَمِيصَانِ فَانْتَبَهْت وَنَذَرْت بِلُبْسِ ثَوْبٍ وَاحِدِ إلَى أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ عَنْ الْعَوَارِفِ.
وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ إلَّا عَارِيَّةً وَالْبِسْطَامِيُّ كَانَ قَمِيصُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ عَارِيَّةً فَرَدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَعَنْ الْبَعْضِ لَا يَلْبَسُ إلَّا مُسْتَأْجَرًا، وَلَا يَلْبَسُ عَلَى مِلْكٍ.
وَفِي الْمِشْكَاةِ لَقَدْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا بِأَنْ لَبِسْتَ أَلْوَانًا مِنْ الْمَلْبَسِ وَأَنَّنِي كَالسَّيْفِ فِي عُرْيِهِ، وَأَنْتَ مِثْلُ الْبَصَلِ الْمُكْتَسِي.
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْوُفُودِ، وَقَدْ قَالَ التتارخانية «إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرُبَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَعَلَيْهِ رِدَاءُ خَزٍّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى آثَارَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَوْطَانِكُمْ فَالْبَسُوا الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخَسِيسَةَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْكُمْ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مَعَ زَهَادَتِهِ وَوَرَعِهِ كَانَ يُوصِيهِمْ بِذَلِكَ.
وَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَلْبَسُ النَّفِيسَةَ وَيَقُولُ لِي نِسَاءٌ وَجِوَارِي فَأَتَزَيَّنُ كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إلَى غَيْرِي، وَعَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ سِنْجَابًا وَكَانَ عَلَى الضَّحَّاكِ قَلَنْسُوَةُ سَمُّورٍ فَبِمَا ذُكِرَ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مِثْلِ لُبْسِهِ قَمِيصًا وَاحِدًا فَقَطْ وَبَيْنَ لُبْسِهِ نَحْوَ رِدَاءٍ ذِي قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ إذْ الْقَمِيصُ الْوَاحِدُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ عُرُوضِ الْخَارِجِ وَكَوْنُ الرِّدَاءِ عِنْدَ عُرُوضِ دَاعٍ مِنْ الْخَارِجِ كَبَيَانِ أَصْلِ جَوَازِهِ لِأُمَّتِهِ وَتَزَيُّنِهِ لِنِسْوَانِهِ، وَإِلْقَاءِ مَهَابَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ نَظَرِ الْخَلْقِ إلَيْهِ بِنَظَرِ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ وَتَحْدِيثِ النِّعْمَةِ.
ثُمَّ فِي التتارخانية أَيْضًا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا رُقْعَةٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ ثِيَابًا نَفِيسَةً وَاتَّخَذَ أَلْوَانًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَاقْتَدَى بِهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَيَظْلِمُونَ لَعَلَّ تَفْصِيلَهُ مَا فِي نَحْوِ كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا تَشَاوَرُوا، وَقَالُوا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا دِيَارَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَطَرَفَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَأْتُونَ عُمَرَ فَيَرَوْنَ جُبَّتَهُ الَّتِي لَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً فَلْنَسْأَلْهُ حَتَّى يُغَيِّرَ بِثَوْبٍ لَيِّنٍ يُهَابُ فِيهِ مَنْظَرُهُ وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ مِنْ الطَّعَامِ يَأْكُلُهُ مَعَ بَعْضِ الْكِبَارِ فَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا إلَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَسْت بِفَاعِلٍ ذَلِكَ فَأَشَارَ إلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلُوا عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَأَجَابَتَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَضَى إلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ الدُّنْيَا، وَلَمْ تُرِدْهُ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فُتِحَ عَلَى يَدَيْك كُنُوزُ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَحُمِلَ إلَيْك أَمْوَالُهُمْ وَكَذَا طَرَفَا الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرُسُلُ الْعَجَمِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ يَرِدُونَ إلَيْك، وَعَلَيْك هَذِهِ الْجُبَّةُ فَلَوْ غَيَّرْتهَا بِلَيِّنٍ لَحَصَلَ مَهَابَةُ الْإِسْلَامِ وَيُغْدَى بِجَفْنَةِ الطَّعَامِ فَتَأْكُلُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَبَكَى عُمَرُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ هَلْ تَعْلَمِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبِعَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةً أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَشَاءٍ وَغَدَاءٍ حَتَّى لَحِقَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتَا لَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قُرِّبَ إلَيْهِ طَعَامٌ عَلَى مَائِدَةٍ فِي ارْتِفَاعِ شِبْرٍ أَمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالطَّعَامِ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْمُرُ بِالْمَائِدَةِ فَتُرْفَعُ قَالَتَا نَعَمْ أَنْتُمَا زَوْجَتَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَتَيْتُمَانِي تُرَغِّبَانِنِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبِسَ جُبَّةً مِنْ الصُّوفِ فَرُبَّمَا حَكَّ جِلْدَهُ مِنْ خُشُونَتِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute