للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ هَلْ حُوسِبْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولَانِ هَلْ وُزِنْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولُونَ هَلْ قَرَأْتُمْ كُتُبَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ ارْجِعُوا فَكُلُّ ذَلِكَ وَرَاءَكُمْ فَيَقُولُونَ هَلْ أَعْطَيْتُمُونَا شَيْئًا فَنُحَاسَبُ عَلَيْهِ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ «مَا مَلَكْنَا فَنَعْدِلُ أَوْ نَجُورُ، وَلَكِنْ عَبَدْنَا رَبَّنَا حَتَّى دَعَانَا فَأَجَبْنَاهُ فَيُنَادِي مُنَادٍ صَدَقَ عِبَادِي» - {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ٩١]-.

وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا نُقِلَ عَنْ الْفَيْضِ عَنْ الْعَسْكَرِيّ عَنْ مُضَرَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ» قَالَ الْمُرَادُ بِالْأَغْنِيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مِثْلَ عُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَ مُضَرُ فَذَكَرْته لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ لَا يُسْأَلُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا إنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ. انْتَهَى.

كَأَنَّ ظَاهِرَهُ تَعْرِيضٌ عَلَى حَضْرَةِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا مَعْرِفَتُهُ أَحْكَامَ الْأَشْخَاصِ الدِّينِيَّةِ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُتَبَادَرُ إطْلَاقِ ظَاهِرِهِ فَيُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ إذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيرَ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَعَالِمِهَا، وَأَنَّ مَعْرِفَتَهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ النُّصُوصِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعْرِفَتُهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِ النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْمُعَارِضِ وَالنَّسْخِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ هُمْ الْوَاقِفُونَ عَلَى حَقِيقَةِ مُرَادِ الشَّارِعِ لَا غَيْرُهُمْ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ حَدِيثَ الْفَقِيهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِ الْفَقِيهِ، وَأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إنَّمَا هِيَ عَنْ أَحْوَالِهِمَا الْحِسِّيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَعَنُّتٌ وَمُكَابَرَةٌ بَحْتٌ كَيْفَ، وَهُوَ أُسْتَاذُ عَامَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ مِنْ عِيَالِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَلَوْ سُلِّمَ خَطَؤُهُ فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ لَا يَقْتَضِي مِثْلَ ذَلِكَ التَّشْنِيعِ بَلْ التَّأَدُّبُ لَازِمٌ فِي تَعْبِيرِ زَلَّاتِ الْكِبَارِ وَالِاعْتِذَارِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْخَطَأِ مِنْ الرَّاوِي لَعَلَّهُ لَمْ يَضْبِطْهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْجَهْلِ إلَى مَنْ أُجْمِعَ عَلَى عُلُوِّهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْكَذِبِ إلَى الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الْإِمَامِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَغْنِيَاءِ فِي نَفْسِهِ مُتَبَادَرٌ فِي الْجَمِيعِ أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ مَا هُوَ مِثْلُ عُثْمَانَ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ بِفُقَرَاءِ أُمَّتِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْفَرِيقَانِ عَامَّانِ لِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ بِنِسْبَةِ كُلٍّ إلَى أَمْثَالِهِ فَالْفَقِيرُ الْمُمَاثِلُ لِلْغَنِيِّ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى هَذَا الْغَنِيِّ لِفَقْرِهِ.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ» فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ.

، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا» لَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَاجْتَرَأَ عَلَى مَا أَجْتَرَأَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفُقَرَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَصَرُوا احْتِيَاجَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الدُّنْيَا، وَأَمْتِعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فَمِثْلُ عُثْمَانَ لَا يَضُرُّ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ مَحَبَّةٌ لِلدُّنْيَا فَمِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْغَنِيَّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لَهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاقِعَةِ فِي حَقِّ مِثْلِ عُثْمَانَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ وَزَيْنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ بِبَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا، وَلَا غِنًى، وَلَا مَالًا؛ وَلِلْفَقِيرِ مَعَ الرِّضَا فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَزْيَنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» وَالْفَقْرُ عِنْدَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ هُوَ الزُّهْدُ وَالْعِبَادَةُ، وَإِنْ ذَا مَالٍ وَغَيْرُهُ فَقِيرٌ، وَإِنْ فَقِيرًا.

وَقَالَ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَمَانَةٌ فَمَنْ كَتَمَهُ كَانَ عِبَادَةً» الْحَدِيثَ. الْفَقْرُ عِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْفَقِيرِ إذَا كَانَ مَا ذُكِرَ كَانَ مَعْنَى الْغِنَى مُقَابِلَهُ عَلَى طَرِيقِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ.

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الزَّاهِدُونَ الْمُنْقَطِعُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالدُّنْيَا فَلَا غُبَارَ فِيهِ فَلَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ حَمَلَهُ عَلَى هَذَا إذْ قِيلَ إنَّهُ أَيْ عَبْدَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>