وكذلك التفضيل بين العبادات إنما هو بمجموع ما فيها، فقد يختص المفضول بما ليس للفاضل، كاختصاص الجهاد بثواب الشهادة، والصلاةُ أفضل منه، وليس فيها ذلك، والحجُّ أفضل من الغزو، وكذلك الجج، فيه تكفير الذنوب كبيرِها وصغيرها. وجاء في الحديث: "من حج فَلَم يرفث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدتْه أمه"، وهو يقتضي الذنوب كلها والتْبعاتِ، لأنه يوْمَ الولادة كان كذلك. وقد ورد في بعض الاحاديث: "إن الله تجاوز لهم عن الخطيئات، وَضمِن عهم التْبعَات"، والصلاة ليس فيها ذلك، مع أنما أفضلُ من الحج، وما ذلك إلا لأنه يجوز أن يَختصْ المفضول بما ليس للفاضل، وقد تقدم أن الشيطان يفر من الأذانِ والاقامةِ، ولا يَفِرُّ من الصلاة، مع أنها أفْضَلُ منهما، وقد تقدّم تفضيلُهُ، وأنة يخرَّجُ على هذه القاعدة. ثم اعلَمْ أن المفضولات، منها ما يُطْلَعُ على سبب تفضيله؛ ومنها ما لا يعلَمُ إلَّا بالسَّمْع المنقول عن صاحب الشريعة، كتفضيل مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصلاة فيه خيرٌ من الف صلاة في غيره، وفي المسجد الحرام بألف ومائة، وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة، وهذه أمور لا تُعلَم إلا بالسمعيات، كتفضيل المدينة على مكَة عند مالك رحمه الله، ومكة على المدينة عند الشافعي رضي الله عنه، لا يُعْلَمُ ذلك إلا بالنصوص، وقد ذكرت في مواضعها من الفقه، وانما المقصود ها هنا تحرير القواعد الكليَّة، والتنبيهُ عليها، وأمّا جزئيات المسائل ففي مواضعها تنبيه يطّلعُ منه على تفضيل الصلاة علي سائر العبادات، فنقول: تقررَ أن تصرف العباد على أربعة أقسام: أحدُها: حقُّ الله تعالى فقط كالمعارف، وكالإيمان بما يجب ويستحيل ويجوز عليه سبحانه وتعالى. وثانيها: حقُّ العبادِ فقط، بمعنى أنهم متمكّنون من إسقاطه، وإلا فكُلّ حق للعبد ففيه حق لله تعالى، وهو أمْرُهُ عز وجلّ بإيصاله إلى مستحِقه، كأداء الديون وردّ الغصوب والودائع. وثالثها: حق لله تعالى وحق للعباد، والغالبُ مصلحة العباد كالزكوات والصدقات والكفارات، وكالأموال المنذورات والضحايا، والهدايا والوصايا والأوقاف. ورابعها: حق لله تعالى وحق لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللعباد كالأذان، فحقه تعالى. التكبيراتُ والشهادة بالتوحيد، وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - الشهادة له بالرسالة، وحق العباد الإرشاد للاوقات في حق النساء والمنفردِينَ، والدعاء للجماعات في حق المقتدين. والصلاة مشتمِلَة على حق الله تعالى كالنية والتكبير والتسيح والتشهد والركوع والسجود، وما يصحبها من الحركات والترروكِ والكَفِّ عن الكلام كثير الافعال، وعلى حق النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصلاة عليه والتسليم عليه والشهادةِ له بالرسالة، وعل حق المكلّف، وهو دعاؤه لنفسه بالهداية والاستقامة على العبادة وغيرها، والقنوتُ ودعاؤه في السجود والجلوس لنفسه، وقولُهُ: السلام علينا وعلى عباد الله صالحين، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليمُ آخرَ الصلاة على الحاضرين. ولهذه الوجوه ونحوها كانت الصلاة أفضل الاعمال بعد الإِيمان. =