للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وثالِثُها وضعُ الْيَد التي ليست بمؤتَمَنَةٍ. وقَوْلِى: ليست بمؤْتَمَنَة، خيرٌ من قولى: اليدُ العادية (٤) فإن العادية تختص بالسُّرَّاقِ والغُصَّابِ ونحوهم، وتَبقى الموجِبة للضمان بغير عدْوانٍ، بل بإذن المالك، كقبض المشترى للمبيع بيعًا فاسدا فيُتْلِفُهُ أو يَتْلفُ بآفة سماوية عند مالك، أو بحوالَةِ الأسواق. ووضْعُ اليد عند مالكٍ في الاجارة يختلفُ، فهو عنده على الأمانة كالقراض والوديعة والمساقاة، وأيدي الأوصياء على أموال الايتام والحكام على ذلك، وأموال الغائبين والمجانين، فهذه لا ضمان فيها.

وخرج مِن الإِجارة صورتانِ قال بالضمانِ فيهما:

الواحدة: الأجِيرُ الذي يؤَثِّر بصنعته في الأعيان كالخَيَّاط والصَّباغ والقصَّارِ، (٥) لأنَّ السلعة إذا تغيَّرت بصنعتها لا يعرفها ربُّها إذا وجَدَها قد بيعت في الأسواق، فكان الأصلحُ للناس تضمينَ الأجراء في ذلك، وهو من باب الاستحسان (٦)، ولم يَرَهُ الشافعى، بل طردَ قاعدة الأمانة في الإجارة.


(٤) العادية: الجائرة الظالمة، المعتدية، مِن الفعل، عدا عليه يعْدو إذا جار عليه وطغى واعتدى وتَجَبَّر. ويقال: عَدا في سَيره يعدُو عدْوًا بمعنى أسرع.
ومن الاول قول جعفر بن أبي طالب رضىِ الله عنه أمام النجاشي ملك الحبشة لما هاجر إليها. جمعٌ من الصحابة رضوان الله عليهم الهجرَة الأولى إلى الحبشة، فرارًا بدينهم وعقيدتهم من تضييق المشركين عليهم وإذايتهم للمسلمين: قال جعفر: فَعَدَا علينا قومُنا وجاروا علينا، فخرجنا مهاجرين الي أرضك".
ومن المعنى الثاني قول الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. سورة الأنعام. الآية ١٠٨. فهى تحتمل العدْوَ بمعنى السرعة، وبمعنى الجهل والاعتداء، كما ذكره بعض المفسرين، رحمهم الله.
(٥) القصار هكذا بصيغة المبالغة يطلق على من يغسل الثياب ويُبَيِّضُهَا، وخاصة ثياب الصوف والأغطية منه، حيث يحررها ويرخيها، كما هو معروف من هذه الحِرفة والصناعة.
(٦) قال العلامة أبو الوليد ابن رشد رحمه الله في كتابه المقدمات:
"الأصلُ في الصُّناع ألَّا ضمانَ عليهم وأنهم مؤتمَنون، لأنهم أجراء، وقد أسقط النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الضمان عن الأجراء في الائتمان، وضمَّنوهم نظرا واجتهادا، لضرورة الناس إلى استعمالهم. فلو علِموا أنهم يؤتَمنون ولا يضمنون، ويُصَدَّقون فيما يدَّعون من التلف لَتَسَارعوا إلى أخذ أموال الناس واجْتَرأوا على أكلها، فكان ذلك ذريعة إلى إتلاف الأموال وإهلاكها، وللحِقَ أربابَ السلع في
ذلك ضرر شديد، لأنهم بين أن يدفعوها إليهم فيُعَرضوها للهلاك، أو يمسكوها مع حاجتهم إلي استعمالها فيضر ذلك بهم، إذ لا يُحْسِنُ كلُّ أحد أن يخيط ثوبه ويعمل جميع ما يحتاج إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>