والقسم الثاني قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد، عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحِكَمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يُحْصَى، ولم يُذكَر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإِشارة إليه هنالك على سبيل الإِحمال، فبقيَ تفصيله لم يتحصل.
وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعْظُم قدر الفقيه ويَشرُف، ويظهر رونق الفقه ويُعْرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتُكشف، فيها تنافَسَ العلماء، وتفاضَلَ الفضلاء، وبرز القارح على الجذع، وحاز قَصَبَ السبق مَن فيها برع، ومن جعل يُخَرِّجُ الفُرُوعَ بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية، تناقضتْ عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنِطَت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العُمرُ ولم تَقْضِ نفسُهُ من طلبٍ مُنَاها. ومَنْ ضَبَطَ الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثرِ الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحدَ عنده ما تناقضَ عند غيره وتناسَبَ، وأجاب الشاسعَ البعيد وتقارب، وحصَّل في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرقَ فيه من البيان، فبَيْنَ المقاميْنِ شأوٌ بعيد، وبين المنزلتين تفاوتٌ شديد.
وقد ألهمني الله تعالى بفضله أنْ وضعتُ في أثناء كتاب الذخيرة من هذه القواعد كثِيرا مفرَّقا في أبواب الفقه، كلُّ قاعدة في بابها وحيثُ تُبْنَى عليها فروعها. ثم أوجد الله تعالى في نفسى أنَّ تلك. القواعد لو اجتمعت في كتاب، وزِيدَ في تلخيصها وبيانها والكشفِ عن أسرارها وحِكَمها لكان ذلك أظهرَ لبهَجتها ورونقها، وتكيفت نفس الواقف عليها بها مجتمعةً أكثرَ مما إذا رآها مفرَّقة، وربما لم يقفْ إلا على اليسير منها هناك لعدم استيعابِهِ لجميع أبواب الفقه، وأينما يقف على قاعدةٍ ذهب عن خاطره ما قبلَها، بخلاف اجتماعها وتظافرها، فوضعتُ هذا الكتابَ للقواعد خاصةً، وزدت قواعد كثيرة ليست في الذخيرة، زدت ما وقع منها في الذخيرة بسْطا وإيضاحا، فإني في الذخيرة رغِبْتُ في كثرة النقل للفروع، لأنه أخصُّ بكتب الفروع، وكرِهتُ أن أجمعَ بين ذلك وكثرة البسْط في المباحث والقواعد، فيخرج الكتاب إلى حدٍ يعسُرُ على الطلبة تحصيلُهُ، أما هنا فالعذر زائل، والمانع ذاهب، فأستوعب ما يفتح اللهُ به إن شاء الله تعالى.