عمري في دمشق أسكن في الجبل، أفتح النافذة فأجمع دمشق كلها بنظرة واحدة وغوطتيها اللتين تعانقانها وتحفّان بها من الشرق ومن الغرب والبساط الأخضر الممتدّ إلى الجنوبي منهما حتى يلامس أقدام هضبة الكسوة وجبل المانع، فإن رحلت عن دمشق اخترت الطبقات العالية من العمارات الكبيرة، أسكن فيها فأرى منها بعض ما كنت أرى من نافذتي في دمشق. منظر لا كمنظر دمشق (١).
وقد ذكرت الغوطتين هنا لأنني أصف ما كان، وقد ذهبَت الآن الغوطة الغربية وذهب بعض الشرقية، أكلتهما صناديق الإسمنت التي يتكدس فيها الناس كَسَمَك السردين في العلب، وضاعت تلك البساتين التي كانت تتعانق متصلة مترابطة الأيدي حتى يزيد طولها عن الأكيال. ولو عقلنا يومئذ لتركناها مسرحاً للنظر ومصفاة للهواء ومثابة للجمال، وبنينا عماراتنا من حولها على سفوح جبال المِزّة وفي سهل بَرْزة وعلى هضاب قاسيون. وقد صنعنا ذلك الآن، ولكن بعد فوات الأوان!
* * *
ما لي كنت أتكلم عن منزلي في الرياض فجرّتني عواطف القلب إلى داري في دمشق وإلى أيامي فيها؟ سقى الله تلك الأيام!
(١) والناس حتى بعض الكبار من الكتّاب يقولون: هذا رجل ولا كالرجال، يظنون أنهم يمدحونه ويفضّلونه على الرجال، وهم إنما يذمّونه ويقولون إنه رجل ولكن لا يبلغ أن يكون مثل سائر الرجال!