رحمة الله على الشيخ أمجد، فلقد كان بَرَكة العصر، وكان مجلسه مدرسة، وكان يؤثّر بقوّة حاله أكثر من تأثيره بروعة مقاله.
ولن أسرد الحديث عن الأيام التي قضيناها في الموصل، ولا أستطيع سردها ولكن أذكر ما بقي لديّ منها. من ذلك أن الصواف أخذني لأحاضر في ناديهم (وقد صار للإخوان المسلمين بسعي الصواف ناد في الموصل كما صار لهم ناد في بغداد وفي البصرة). وكنت وسط المحاضرة وأنا مندفع بحماسة فَوّارة، فرفعت رأسي، فإذا منارة المسجد تُطِلّ علينا قد أحنت رأسها فوقنا ... إي والله، فما ظننت إلاّ أنها ستسقط علينا. فقطعت الخطبة فجأة وقلت: السلام عليكم، ونزلت. فضجّ الحاضرون وقالوا: أكمل، أكمل، تكلّم، تكلّم. فقلت: ويحكم! أما ترون المنارة تريد أن تنقضّ علينا؟ فإذا كان مقدّراً عليّ أن أموت فدعوني أذهب إلى فلسطين فأقاتل اليهود فأكون شهيد المعركة، لا أن أموت تحت الأنقاض.
قالوا: إن هذه هي الحدباء، منارة مسجد نور الدين، نور الدين الذي ردّ الله علينا به وبصلاح الدين أرض فلسطين. أفما سمعت بها؟ إن لها ثمانمئة سنة وهي مائلة. أما سمعت ببرج بيزا المائل في إيطاليا؟ قلت: بلى، وعندنا في أول حيّ الميدان في دمشق منارة مائلة (١). ولكن من يضمن أنها وقد ظلّت راكعة طول هذا الزمان لا تسجد فوقنا الآن؟
ولا أدري كيف أقنعوني وأرجعوني، ولا أدري كيف أكملت خطبتي ورأسُ المنارة مائل عليّ أراه من فوق رأسي!
(١) وقد كان في جدّة إلى عهد قريب واحدة تشبهها في مسجد الباشا.