ولقد سمعت من الأصوات ما يستعصي على الحصر، فما وجدت أحلى ولا أطرى ولا أعذب من صوته لمّا كان شاباً. وكانت له معرفة قليلة بالموسيقى، يعزف على القيثارة ولم يُحسِن العزف عليها. وكان أشهر وأقدر مَن يعلّم الأناشيد المدرسية، وربما ألّفها ولحّنها، أي فعل ما يفعل كثير مِمّن يُسمَّون ملحّنين: يأخذ ممّا يحفظ جُمَلاً موسيقية يغيّر نسقها ويبدّل ترتيبها، فيجعلها لحناً جديداً أو كالجديد ويدّعي أنه له. وربما عمد إلى لحن لا يعرفه إلاّ قليل من الناس فنسبه إلى نفسه، أو ربما حفظه ثم نسي أنه حفظه وأنه لغيره فظنّ أنه له، كما فعل ملحّن نشيد «بلادي بلادي منار الهدى» الذي أحفظ لحنه من أيام شبابي.
وحسني كنعان أوّل من علّمني الإنشاء العربي (وكنّا نتعلّم على عهد الأتراك الإنشاء بالتركية)، ثم شرع يكتب، ولقد كتب مئات من المقالات، وكان كاتباً ساخراً يسخر حتى من نفسه ويروي النكتة ولو كانت عليه. وقد تكلّمت عنه كثيراً في هذه الذكريات وسأعود إلى الكلام عنه كثيراً.
وممّن هم في منزلة معلّمينا ثم صاروا من زملائنا في التدريس زهدي الخمّاش، وهو من مؤلّفي الكتب المدرسية في الدين. وكانت قد أصابته آفة لست أدري ما هي (ونسأل الله السلامة من الآفات) ففتحوا له في مقدّم عنقه فتحة كان يتنفّس منها، وكان يتّخذ له صداراً صغيراً يسترها، فإذا أراد أن يتكلم مدّ إصبعه من وراء الصدار فسدّها.