وكان أول من تولى القصص الرسمى فى عصر سليمان بن عنتر التجَسيبى سنة ٣٨ هـ، تولاه مع القضاء ثم أفرد به، ثم تعاقبت القصاص من بعده فى مصر على اختلاف بينهم فى القدرة والغرض، فكانوا أصداء للعقيدة، وأبواقاً للسياسة، تسمعون منهم فى كل عهد لهجة، ولكل دولة سنداً وحجة، وترون ذلك أقوى ظهوراً فى عهد الفاطميين، فقد كان يعقوب بن كِلِّس وزير المعز يعتمد على المناظرات فى نشر فقه الشيعة، وعلى القصص فى جذب القلوب لأهل البيت. وكان مقتل الإمام "على" ومأساة الإمام "الحسين" موضوع المنابر والسوامر فى شهرى رمضان والمحرم.
وقيل إن ريبة حدثت فى قصر "العزيز بالله" فتناقلتها الأفواه ورددتها الأندية، فطُلب إلى شيخ القصاص يومئذ يوسف بن إسماعيل (١) أن يلهى الناس عنها بما هو أروع منها، فوضع قصة عنترة ونشرها تباعاً فى اثنين وسبعين جزءاً سمرت بها مجالس القاهرة منذ ذلك الحين إلى اليوم، وهى إلياذة لا ينازعها هذا الشرف إلى الآن عمل فنى آخر.
وفى القرن الرابع للهجرة كانت فورة هذا الفن ونهضته فى بغداد والقاهرة, ففى عهدى المقتدر بالله العباسى والعزيز بالله الفاطمى، كان القصّاص الحكوميون والشعبيون يحتشدون لوضع الأخبار، ويتنافسون فى جمع الأسمار من الوراقين والرحالين والعامة.
ولكن القصص فى العراق كان من عمل الكتاب، يصورون فيه أنبل عواطف الناس وأجمل مواقف الحياة، ويلقونه زهوراً وعطورا فى مجالس الخلفاء وسوامر الملوك , فكانت بلاغة المحدث وجلالة السامع ونبالة الموضوع تطبع القصة بطابع الجمال والاعتدال والقصر، وتنزع بها إلى السليقة العربية المجبولة على الإيجاز والقصد فى الشعر والخطب والرسائل والقصص.
(١) وقيل إنه الشاعر الطيب أبو المؤبد محمد بن الصانع الجزرى وممن قال بهذا الرأى الأستاذ كرسان برسيفال الذى طبع لهذه السيرة ملخصا فى باريس.