كل شيء منها بباب أو فصل؛ يجمع ما ورد فيه عن هذا الموضوع أو تلك المسألة، فليس على ترتيب كتب العقائد مع ما فيه من أصول العقيدة، وليس على ترتيب كتب التشريع مع ما فيه من أصول التشريع، ولا هو كذلك على نسق كتب الأخلاق أو التاريخ ولا القصص، ولا غير ذلك .. بل ليس على ترتيب بعض كتب الدين حين أفردت أحداث الحياة بأسفار عنونت كل سفر منها بحادث؛ أو حين جرت على تسلسل حياة فرد خصت كل حين منها بقسم، كما لم يرتب على شيء من تاريخ ظهور آياته ... إنما جرى القرآن على غير هذا كله، فعرض لكثير من الموضوعات ولم يجمع منها واحد، بعينه، فيلتقى أوله بآخره، ويعثر به في مكان معين .. وإنما نثر ذلك كله نثرًا، وفرقه تفريقًا؛ فالحكم التشريعى في أكثر من موضع، والأصلى الاعتقادى قد عرض له غير مرة، والقصة قد وزعت مناظرها ومشاهدها في جملة أماكن، وهكذا تقرأ في السورة الواحدة فنونًا من القول، وتمر بألوان من الأغراض المختلفة، تعرض لها سورة أخرى، فيتكامل العرضان، وتتم الفكرة بتتبعها في مواطن متعددة؛ وذلك لحكمة ومرمى يبين في غير هذا المكان من الدراسة القرآنية التي تعرض للكلام في الترتيب.
وإنما ننظر إلى ما لهذا الواقع من أثر في طريقة تناول القرآن بالتفسير، وتتبعه لفهم معانيه وأغراضه، فيبدو للناظر أن تفسير سورا وأجزاء لا يمكن من الفهم الدقيق، والإدراك الصحيح، لمعانيه وأغراضه، إلا إن وقف المفسر عند الموضوع ليستكمله في القرآن ويستقصيه إحصاء، فيرد أوله إلى آخره، ويفهم لاحقه بسابقه .. فالناظر في سورة البقرة مثلًا يجد من الحديث عن المؤمنين وحالهم ما أحسب أنَّه يفهم الفهم الصحيح، إذا ما قورن بما في سورة "المؤمنون"، من الجزء الثامن عشر- ثم هو واجد في هذه السورة عن المنافقين وحالهم مالا يفهم على وجهه إلا مع سورة المنافقون في الجزء الثامن والعشرين .. وقصة آدم في البقرة، إنما تفسر مع ما ورد عنها في سورة الأعراف، والحجر والكهف وغيرها.