وأنت - أرشدك الله - مقدر أن الَّذي يفهم جملة نصوص خاصة بموضوع واحد، إنما يصل إلى صحيح معناها ودقيقة، بمعرفة سابقها ولا حقها ومتقدمها ومتأخرها، إذا ما كان الزمن قد تباعد بين تلك النصوص، وبخاصة مثل هذا التباعد الزمنى الَّذي بين آى القرآن، فقد طال سنين وسنين .. ثم هذا المتفهم محتاج إلى إدراك الملابسات والمناسبات والأسباب التي أحاطت بما يفهمه من النصوص، إذ هي أضواء لا بد منها لاستجلاء المعنى. وترتيب القرآن لم يرع شيئًا من تقدم الزمن وتأخره، فمكيه يتخلل مدنية ويحيط به، وهكذا ترى من النظر في ترتيب القرآن على سوره - أي ترتيب كان في المصاحف المختلفة - ما لا يساير حاجات مفسره المتفهم له، بل يقضى ما كان من أمر الترتيب، بالنظر الجديد والترتيب الخاص لآى الموضوع الواحد، بحيث يكشف هذا الترتيب لنا عن تلك النواحى، التي عرفت أن المفسر المتفهم مضطر إلى مراعاتها وتقديرها، توصلا إلى الفهم الصحيح، والمعنى الدقيق.
فجملة القول، أن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع لم يلتزمها مطلقًا، وقد تردُ الترتيب الزمنى لظهور الآيات لم يحتفظ به أبدًا؛ وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومقامات مختلفة، ظهرت في ظروف مختلفة؛ وذلك كله يقضى في وضوح بأن يفسر القرآن موضوعًا موضوعًا؛ وأن تجمع آيه الخاصة بالموضوع الواحد، جمعًا إحصائيًا مستقصيًا، ويعرف ترتيبها الزمنى، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيها بعد ذلك لتفسر وتفهم فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تحديده ... وليس تفسير القرآن سورة سورة إلا تعرضًا مفرقًا لموضوعات مختلفة تنتظمها السورة الواحدة؛ ثم يعود المفسر بعد ذلك في السورة الأخرى إلى مثل هذه الموضوعات أنفسها. فإن عجل النظرة الجامعة إلى هذه الموضوعات في القرآن كله حينما عرضت له في أول سورة، فقد آل به الأمر إلى تفسير الموضوعات، وكانت وقفاته الطوال المتباعدة عند كل