ولكن هذا الابتكار لم يقض من فوره على عادة تناقل مجموعات المواد بوساطة الرواة تلك الطريقة التي ظلت مرعية إلى نهاية القرن، لذلك يشك في أن الشطر الأوفى من المائتين والثلاثين الرسالة المنسوبة إلى علي بن محمد المدائنى البصري المتوفى سنة ٢٢٥ هـ (٨٤٠ م) كتب في حياته فعلا. ومما لا شك فيه أن قسمًا كبيرًا من هذه الرسائل لم يكن مجرد نسخ منقولة عن مجموعات أبي عبيدة. على أن الأهم من ذلك هو مؤلفاته الكبيرة في تأريخ الخلافة، ورسالتاه في تأريخ البصرة وخراسان. ولما كان المدائنى قد تناول جميع الروايات العراقية بأساليب النقد السليم الذي يتمشى ومذاهب أهل المدينة فقد اشتهر مصنفه بصدق الرواية، وغدا بذلك المرجع الأول لمصنفات العصر التالي، وقد أيدت التحقيقات الحديثة دقة هذا المرجع بوجه عام.
ويؤخذ من استعراض التطورات السالفة أن الحدث البارز فيها هو أن الأمة الإسلامية قد اكتسبت النزعة التاريخية، وذلك على الرغم من عداء طائفة من رجال الدين المتقدمين للدراسات التأريخية. ولا مراء في أن الحجج التأريخية الواردة في القرآن، والزهو الذي ابتعثته الفتوح الإسلامية الواسعة والمنافسات بين قبائل العرب، كل أولئك قد ساعد على خلق تلك النزعة. ولكن الظاهرة البارزة التي قوامها أن جامعى الرواية التاريخية، ما خلا اللغويين منهم، كانوا رجال دين ومحدثين فحسب، تحمل على الاعتقاد بوجود سبب أعمق لذلك الحدث، فقد كان التأريخ من وجهة النظر الدينية، مظهرًا لتدبير إلهى غايته حكم الجنس البشرى؛ وبينما كانت الغاية من التأريخ، في رأى الأجيال المتقدمة، مقصورة على تدوين حوادثه خلال تعاقب الأنبياء الذين كان خاتمهم محمد [- صلى الله عليه وسلم -]، إذا بجميع المذاهب الإسلامية قد اتفقت على أن الغاية من التأريخ لا تقف عند هذا الحد. ففي مذاهب أهل السنة أن الأمة الإسلامية، أي أمة الله، هي التي يرتبط بها استمرار النظام الإلهى على الأرض؛ لذا كانت دراسة تأريخ هذه الأمة تكملة ضرورية لدراسة الوحى الإلهى في القرآن