للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثانيًا: قولُهُم: بلا كيفٍ؛ يدلُّ على ثبوتِ أصْلِ المعنى؛ لأنَّ نفيَ الكيفِ عما ليس بموجودٍ لغوٌ من القولِ، فإذنْ أصلُ المعنى موجودٌ، والكيفيَّةُ مجهولةٌ، والإمامُ مالكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ حين سُئِلَ عن الإستواءِ، قال: الإستواءُ غَيْرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدْعَةٌ (١).

هم لما ظنوا أنَّ السَّلَفَ لا يُثْبِتُونَ المعانيَ قالوا: إنها أَسْلَمُ، ونحنُ نَقُولُ لهم: إمَّا أن تكونوا كاذبين على السَّلَفِ، أو جاهلين بحقيقةِ مَذْهَبِهم، لا تَخْرُجُون عن هذا، فكلامُهُم هذا عن السلفِ لا يخلو من ظُلْمٍ، وهو إما القولُ بلا عِلْمٍ، أو الكذبُ على السَّلَفِ، وكلاهما ظُلْمٌ؛ فهُم ظالمون للسلفِ بهذا الكلامِ، الذي قالوا: إنه مذهبُ السلَفِ.

فمن يقولُ: إن أَهْلَ السُّنَّةِ قِسمانِ مُفَوِّضَةٌ وَمُؤَوِّلَةٌ، نقول له: لا تَكُنْ كالغرابِ أراد أن يُقَلِّدَ كالحمامةِ ولم يَعْرِفْ، ثم أراد أن يَرْجِعَ إلى مِشْيَتِهِ وَضَيَّعَهَا، فَبَقِيَ لا شيءَ عنده؛ فمن قال: إن أهلَ السُّنَّةِ أهلُ تفويضٍ على وَجْهِ الإطلاقِ فهو كاذبٌ، بل أهلُ السُّنَّةِ مُفَوِّضَةٌ للكيفيَّةِ، غيرُ مُفَوِّضَةٍ للمعنى، وكلامُ الإمام مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الذي تقدَّم واضحٌ قال: "الإستواءُ غَيْرُ مجهولٍ، وَالكَيْفُ غيرُ معقولٍ". هنا نُفَوِّضُ.

والظاهرُ أن المُفَوِّضَةَ خرجوا بعدما خَرَجَتْ بِدْعَةُ التعطيلِ، فقد عجزوا أن يُقابلوا أهلَ التعطيلِ فقالوا: إذن نُفَوِّضُ، لأنَّ أهلَ التعطيلِ الجهميَّةَ صار لهم شأنٌ كبيرٌ، فضغطوا على علماءِ السُّنَّةِ، وعَجَزُوا عن مقاوَمَتِهم، فقالوا: إذن لا نقولُ لا بهذا ولا بهذا، نُفَوِّضُ الأمرَ.


(١) أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (٦٦٤)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (٨٦٧)، وأبو نعيم في الحلية (٦/ ٣٢٥)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (١٠٤).

<<  <   >  >>